تعتبر الزاوية البلقايدية من أهم الزوايا في الجزائر، و تحمل هذه الزاوية العامرة اسم سيدي محمد بلقايد المولود عام 1911م من عائلة تلمسانية شريفة مشهورة بخدمة الأولياء ورجال الله ، و قد أخذ الشيخ بلقايد الطريقة بعد أن أجيز في علوم الشريعة من سيدي محمد الهبري العزاوي الزروالي نسبة إلى بني زروال وهو عرش من عروش قبيلة مجاهر الضاربة بجدورها في مستغانم كاملة وما جاورها. وعرفت الهبرية التي صارت تنسب لمجددها بالبلقايدية انتشارا “هائلا” مع بداية السبعينيات من القرن المنصرم خاصة في المناطق الغربية للوطن كتلمسان وسعيدة ومعسكر وغليزان وتيارت وحتى الجزائر العاصمة ومنطقة القبائل، و ينتمي لهذه الزاوية كل من الآشرة و المالكية و المتصوفة، حيث تقدم دروس دينية و محاضرات و حلقات لتحفيظ القرآن و علومه، كما ينطلق منها ركبان وعدة سيدي الحسني الذي تعرفه ولاية وهران كل سنة.و كان الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة قد أشرف على تدشين مقر الزاوية البلقايدية في 15 ماي 2018 بتقصراين ببلدية بئر خادم و هو الصرح الذي شيد على مساحة تقدر ب 5 هكتارات, و به مدرسة قرآنية بطاقة استقبال تصل الى 300 اضافة الى مكتبة تتربع على 1200 م2.
إلتقيا في الرؤيا قبل أن يجتمعا في الواقع
قصة عجيبة جمعت الإمام الشعراوي مع الشيخ بلقايد
سافر إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في عام 1963 إلي الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر هناك، وقد عاش الشيخ في الجزائر سبع سنوات، ارتبط فيها ارتباطاً شديداً بالشيخ محمد بلقايد إمام علماء الجزائر وقتها، وكان الشعراوي يشارك بصفة دائمة في مجالسه وفي حلقات الدروس التي يعقدها.
و كان للقاء الشيخين قصة عجيبة .. فقد عرف الشيخ الشعراوي الإمام محمد بلقايد عن طريق الرؤيا في المنام قبل أن يلقاه في الحقيقة في الجزائر، حيث عُرض على الشيخ الشعراوي أن يسافر كرئيس لبعثة الأزهر إلى الجزائر ولكنه هم بالرفض، فجاءه رجل في الرؤية يسأله لماذا لا تريد القدوم إلينا، وطلب منه السفر للجزائر، فغير الشيخ الشعراوي رأيه وقبل بالسفر.
في حفل الاستقبال الذي أقيم بمناسبة الذكرى الثامنة لاستقلال الجزائر في القصر الرئاسي بالجزائر، لمح الشيخ الشعراوي رجلًا جالسًا ضمن مجموعة من العلماء، وإذا به هو ذلك الشخص الذي جاءه في الرؤيا ولم يكن قد رآه من قبل، وحينها أسرع الشيخ الشعراوي إلى الإمام محمد بلقايد الذي رآه وابتسم له فتعانقا، وقد نظم الشعراوي قصيدة في مدح الإمام محمد بلقايد.
والغريب في قصة الشيخان الجليلان الشعراوي وبلقايد أنه ولدا في نفس العام، وهو عام 1911، وكذلك توفيا في نفس العام وهو عام 1998، وتوفى الشيخ الشعراوي قبل شيخه الإمام بلقايد بشهرين
طراز معماري إسلامي يزيد من روحانية المكان
تظهر روحانية العمارة في مقر الزاوية البلقايدية في تقصرايين من خلال الحركة التي يحدثها انتقال المربع إلى مثمن ثم إلى كرة، والتي تعبر بحسب ابن سينا عن الكمال الإلهي والعالم. ولأن الجمال في الثقافة الإسلامية مرتبط بالكمال، فهو بالتالي يشير إلى الله الذي هو رمز الكمال المطلق. لذلك فإن الفكر الجمالي الإسلامي يسعى لإيجاد أسرار العلاقات الجمالية في الزاوية من باب الكمال الإلهي.
الزخارف والرقش.. هندسة لاحد لجمالها
تقوم الزخرفة التي تملأ الفراغات على اعتماد عنصري “التكرار والتوازن”، فالتكرار المتوالي لأي شكل ينتج عنه أثر زخرفي جمالي، والتوازن أيضا يؤدي إلى النتيجة نفسها، “وهذا التوازن يبدأ من خطين أو منحنيين متماثلين ويستطرد إلى صور هندسية لا نهاية لها ولا حد لجمالها. كما تم اعتماد مفهوم زخرفي يسمى الطبق النجمي، وهو عبارة عن مجموعة من الزخارف المستديرة التي ينتج عن تقاطعها نجم في المنتصف.
صرح يغادر بعقلك و يسمو بروحك
زاوية عبد اللطيف بلقايد ..صرح يغادر بعقل زائره إلى أنس أكبر المعالم التاريخية ففيه تشعر بروح مسجد القرويين
وجامع الأمويين وبشموخ تلمسان وقرطبة
تحتوي الزاوية على باحات رخامية تقودك إلى أروقة مسندة بأعمدة تتخللها جدارن مزركشة بموزاييك وتعلوها جداريات مزينة بآيات قرآنية أبدعت في كتابتها أيادي محترفة ،تقودك هذه الأروقة إلى قاعة صلاة تتسع ل 1100مصلي ،يتجلى فيها سحر المعمار الأندلسي وعراقته ،وهو ما عمد عليه القائمون على الزاوية ،وهو ما يمكن أن تلاحظه في محراب الزاوية الجزائري مئة بالمئة مادة وصنعا ،وجمع في تصميمه بين محراب مسجد تلمسان ،وجامع قرطبة ،والجامع الكبير .
سر عجيب ينقلك للتأمل في ملكوت الله
الزائر للزاوية ينتابه شعور عميق يبعثه فيه طرازها المعماري ،فينتابه شوق للقاء الخالق سبحانه ،ولا يجد نفسه إلا وهو يسبح خالقه ويصلي على حبيبه المصطفى في راحة نفسية يندر أن تجدها في مكان آخر .
زاوية للعلم والعمل
تحتوي زاوية عبد اللطيف بلقايد على مدرسة قرآنية عصرية لفائدة 300طالب ،وكذا مركز تكوين للصناعات التقليدية
والنقش على الخشب، ومكتبة بها أكثر من 20000عنوان ، إضافة لامتلاك الزاوية 550مخطوط نادر،وكذا مخبر لترميم المخطوطات، و يجدر بالذكر أن كل هذه المرافق أنجزت بأموال جمعية الزاوية.
الزاوية ..قبلة الراغبين في العلم
تفتح زاوية عبد اللطيف بلقايد أبوابها للشباب الراغبين في العلم فلا تضع شروطا تعجيزية لذلك ،حيث تستقبل الزاوية الراغبين في تعلم القرآن الكريم ، أو ارساخ حفظه، أو إتقان قراءته ، مع حفظ_المتون ، وتحصيل ما تيسر من العلوم ، التي تؤهلهم للاتحاق بالمعاهد الاسلامية لتكوين الاطارات الدينية .
كما تتكفل الزاوية بطلبة العلم فيها ، إيواء ، وإطعاما ، وتعليما .أما عن شروط القبول فهي أن يكون سن الطالب فوق الرابعة عشر،كما يكون المترشح بصحة جيدة وله القدرة على الحفظ ، كما لا يقل مستواه الدراسي عن السنة الأولى من التعليم المتوسط .
الزاوية الجزائرية ..قلعة الجزائر وحاضنة الثوة والمجاهدين
و الجدير بالذكر ولفت النظر للدور الريادي للزاوية عبر التاريخ ،فقد لعبت الزاوية الجزائرية دورا بارزا في الحفاظ على وحدة المجتمع الجزائري وحماية الهوية الوطنية من كل ما قد يشوبها ، ولطالما كانت و ما تزال رقما مهما في خروج الجزائر من المحن التي عرفتها عبر تاريخها سالمة موحدة ،فمنذ الفترة الاستعمارية وما واجهه المجتمع الجزائري من محاولات لتجهيله وطمس معالم هويته مرورا بالعشرية السوداء و ما واجهه المجتمع من محاولات تفرقة وصولا إلى مرحلة البناء والتشييد ،لعبت الزاوية فيها الدور الأبرز محافظة على وحدة الشعب وتماسك الأمة.
الزاوية ..احتضنت الثورة وجمعت المجاهدين
تشهد كتب التاريخ على الدور الكبير الذي لعبته الزاوية إبان الحقبة الإستعمارية خاصة عند اندلاع الثورة التحريرية المظفرة ،حيث عملت الزاوية على توحيد الشعب الجزائري والسعي لتوحيده ، و إيصال الفكر التحرري لكامل فئاته فتكون بين جدرانها الكثير من المجاهدين الأبطال الذين حملوا السلاح
وكافحوا ضد المستعمر الفرنسي الغاشم ، مثلما كان الحال مع الزاوية القادرية بمدينة العقلة بتبسة على الحدود التونسية والطريقة الخلافية والطريقة التيجانية في أقصى الغرب الجزائري، ويؤكد المؤرخون على دور الزاوية في اندلاع الثورات الشعبية التي سبقت الثورة المظفرة كالمجاهدة لالة فاطمة نسومر من بلاد القبائل وهي خريجة الزاوية الرحمانية، جاهدت وقاتلت وانتصرت في كثير من المعارك على جنرالات فرنسيين واستشهدت وهي في عمر الزهور 33 سنة، و الشيخ المقراني الذي تجهز مع إخوانه من الرحمانيين لمقاتلة المستعمر بكل بسالة ،وكذلك الشيخ الحداد.
مساعي خالدة في الحفاظ على الهوية
يُرجع المؤرخون الفضل الكبير للزاوية في الحفاظ على هوية المجتمع الجزائري و تماسكه خاصة عند وقوفها في وجه المستعمر الذي حاول بكل الأساليب أن يطمس الشخصية الوطنية المستمدة من اللغة العربية والدين الاسلامي الحنيف.
وحاول المستعمر الفرنسي أن يقمع هذه الزوايا مستعملا كل ما لديه من وسائل قمع أو ترغيب في محاولات فاشلة لاستمالة الزوايا ، لكنها بقيت ثابتة في الحفاظ على موروثها الديني الذي اكتسبته عن الأجداد، إلى جانب الحفاظ على الهوية الوطنية ومساندة المجاهدين بإمكانياتها المتواضعة. بل كانت الزوايا مركز إشعاع ديني وحضاري يتمحور حوله جميع فئات المجتمع .
ورغم أن الاستعمار عمل بأساليب مدروسة وممنهجة لزرع الفتنة والخزعبلات والتشكيك في كل ما يمت بصلة إلى ثقافتنا وديننا الحنيف لتجهيل المجتمع
وإبعاده عن قيمه الدينية والمجتمعية وحتى يظل تابعا له، إلا أن الزوايا الجزائرية وقفت كحصن حصين في وجه هذه الأساليب الرخيسة ، وعملت على توعية الشعب داعية إلى التمسك بالمبادئ والهوية الوطنية من خلال تعليم القرآن الكريم وعلوم الدين الإسلامي كالفقه وتعليم اللغة العربية فاستطاعت ان تخرج العديد من العلماء الكبار أمثال عبد الحميد ابن باديس و البشير الإبراهيمي و غيرهما من رواد الفكر وأبطال الحرب .
شعارها ..العلم في مواجهة السلاح
ومن شمالها لجنوبها ،ومن شرقها لغربها وقفت الزاوية بكل شموخ على تسيير أمور مجتمعها الذي كان يئن تحت وطأة المستعمر الغاشم و استطاعت المحافظة على الهوية الوطنية والعقيدة الاسلامية، رغم الاستعمار بدأ في تهميش دور اللغة العربية وطمس معالم الهوية الوطنية، من خلال محاربة المساجد و تقليص دورها و مهامها ،فقاوم شيوخ الزاوية الإستعمار الذي يملك أقوى الأسلحة و أكثرها فتكا بسلاح العلم فكان لهم عظيم الأثر في ترسيخ العقيدة الاسلامية والمحافظة على الهوية الاسلامية من خلال تعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن ووضعت يدها على الصغار فعلمتهم أصول دينهم و حسستهم بخطورة المستعمر الذي جاء ليطمس معالم وجود الجزائري و هويته العربية و الإسلامية، و رغم أن الصحراء الجزائرية دخلها المستعمر متأخرا إلا أن الزوايا الصحراوية لم تتأخر عن السعي لمكافحة المستعمر يدا بيد مع كافة الزوايا المتواجدة عبر التراب الوطني .
دور ريادي في مرحلة البناء و التشييد
وقفت الزاوية وقفة الرجل الواحد مع كافة أبناء الشعب الجزائري و مؤسساته و لم تتخلف الزوايا عن أداء دورها الهام في توحيد و تعليم المجتمع الجزائري بعد الاستقلال وظلت تؤدي ادوارا مختلفة من تعليم القرآن الكريم واللغة العربية وعلوم الدين، إلى جانب الحفاظ على قيم المجتمع الجزائري وتقاليده وتماسك أبنائه، و هو ما يؤكد عراقة الزوايا الجزائرية وقوتها في المجتمع وأهمية الدور الذي تؤديه جعلها تقدم أعمالا جليلة حتى بعد الاستقلال لتعرف الجزائر نمطين من التعليم ، التعليم المعاصر الذي له مدارسه وثانوياته وجامعاته والتعليم التقليدي الذي تجسده الزوايا والكتاتيب القرآنية.
وفاء للزوايا و ترسيخ مكانتها
و بعد أن حققت الجزائر الإستقلال ظلت وفية للزاوية التي ساهمت بشكل واضح و كبير فيه ،فأعادت الدولة الجزائرية للزاوية شأنها ، حيث تم تجديد البعض منها وإعادة بناء ما هدم الاستعمار، وظلت الزوايا متماسكة تؤدي دورها بثبات عبر كل المراحل التي عرفتها الجزائر إبان الاستقلال و بعده ،فرغم وجود الجامعات و المعاهد العلمية إلا أن التعليم داخل الزاوايا ما زال موجودا و محافظا على مكانته و أثره في المجتمع .
و ينقسم عمل الزوايا الذي تقوم به الزاوية خلال الاستقلال إلى ثلاثة محاور مهمة، الأول يتعلق بالمحافظة على القرآن الكريم والمتون والتعليم التقليدي اما الثاني فيتعلق بالمحافظة على الثقافة الوطنية من خلال مظاهر التعامل واللباس والمأكل والضيافة والإكرام. بينما يتمثل المحور الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقيه في إبراز وسطية واعتدال الدين الإسلامي، وبذلك أعطت الجزائر صورة للعالم المعاصر كله عن اعتدال الإسلام، ومدت الجزائر يدها بعد الاستقلال من خلال الزوايا إلى الضفة الأخرى للحوار والوئام والسلام، وبقيت الزوايا رائدة وأسست لها تنظيماتها الخاصة وما زالت تؤدي هذه الرسالة وظهر ذلك جليا في معاملاتها وفي محافظتها على الهوية الجزائرية.
و بقي دور الزاوية الذي لعبته قبل أكثر من 50 سنة في لم شمل الجزائريين و دفعهم نحو الجهاد و إخراج المستعمر ، وكانت سندا قويا للثوار و أنجبت العلماء دورا رياديا ، و تمكنت خلال الإستقلال من إسماع صوتها وساهمت في المحافظة على وحدة المجتمع ومكاسب ثورته المجيدة ،و هو ما يوضحه بجلاء مشاركتها في الكثير من القضايا المصيرية لمجتمعنا وخاصة في الوقت الذي تعيش فيه بعض البلدان العربية ما سمي بالربيع العربي حيث ساهمت في توحيد رؤية المجتمع نحو هذه القضايا وتوحيد صفه وحفظ الوطن وصون كرامته.
كما ساهمت الزوايا، في دعوة المواطنين إلى المشاركة بفعالية في الأمور المصيرية التي تتعلق بالأمة وزادت من تعلقهم بقضاياهم الوطنية التي تصون وحدتهم وتلم شملهم.
و يرجع الكثير من المشايخ الفضل للزاوية وحكمتها ورصانة القيمين عليها في النظر وتسيير الامور تمكنت الزاوية من محاربة كل التيارات التي ارادت أن تبث الفتنة في المجتمع، كما ساعدت بما تتمتع به من صيت حسن في بث الاستتباب الروحي في المجتمع.