اعْلَمُوا أنَّ العِلْمَ أَفْضَلُ مَا شُغِلَتْ بِهِ الأَوْقَاتُ، وَظَفِرَتْ بِهِ النُّفُوسُ وَوَعَتْهُ القُلُوبُ، وَهُوَ سَبَبُ رِفْعَةِ العَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ، لأَنَّهُ يُورِّثُ الِإيمَانَ بِاللهِ؛ وَلِذَا جَمَعَ اللهُ بينهُمَا فَقَالَ “يَرْفَعِ اِ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْعِلْمَ دَرَجَٰتٖۖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٞۖ ” . فَالعِلْمُ حَيَاةُ القُلُوبِ وشِفَاءُ الصُّدُورِ، وَهُوَ الْمِيزَانُ الذِي تُوزَنُ بِهِ الأَقْوَالُ وَالأَعْمَالُ، قَالَ سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: “تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خِشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الْأَجِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَقْوَامًا، وَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً، تُقْتَبَسُ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَأَنْعَامُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمِ، يَبْلُغُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَةَ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعُمَّالِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ”.
فلا غِنَى لَنَا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْعِلْمِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمدُ: النَّاسُ إِلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فالرَّجُلُ يَحْتَاجُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَحَاجَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِعَدَدِ أَنْفَاسِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى “أَوَمَن كَانَ مَيِّتاٗ فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُوراٗ يَمْشِے بِهِۦ فِے اِ۬لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِے اِ۬لظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٖ مِّنْهَاۖ “. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ مَنْزِلَةُ الْعِلْمِ وَمَكَانَتُهُ؛ جَاءَتْ نُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ مُتَضَافِرَةً في الْحَثِّ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ فَضْلِهِ وَفَضْلِ أَهْلِهِ وَشَحْذِ الْهِمَمِ إلَيْهِ. فمِمَّا ورد في ذلك قولُه تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِے اِ۬لْمَجْلِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اِ۬للَّهُ لَكُمْۖ وَإِذَا قِيلَ اَ۟نشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اِ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالذِينَ أُوتُواْ اُ۬لْعِلْمَ دَرَجَٰتٖۖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٞۖ “. وقولُه تعالى: “أَفَمَنْ يَّعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَ۬لْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْم۪يٰٓۖ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِ”.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَن النَّبِيِّ ‘ في بَيَانِ فضلِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ فأكثَرُ مِنْ أَنْ تَحْصُرَهُ خُطْبَةٌ في عُجالةٍ، فمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ” وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أن مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْراً رَزَقَهُ فَهْمًا فِي الدِّينِ مُصَاحِباً لِلْعَمَلِ بِهَذَا الْفَهْمِ . وَمِنْ أَعْظَمِ ما وَرَدَ في بَيَانِ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فيِ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فيِ الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ في الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلٍ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلَا دِرْهَماً وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحظٍ وَافِرٍ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر