رغبة بالقيء فاجأتها وشعور بالدوار والغثيان انتابها، منذ أكثر من ثلاثين عاما وهي على هذه الحال لم تتغير، تنهدت بعمق وأسى ثم أطرقت وهي تراقب عقارب الساعة الزجاجية المثبتة على الحائط ومدت رجليها حتى لامست حافة السرير الذي كانت تضطجع عليه منذ الصباح الباكر، وها هي الظهيرة تكاد تنقضي والحيرة لم تفارق تقاسيم وجهها الجميل الذي لم تستطع مرارة الزمن وقساوة الأيام أن تغير من روعته شيئا بل كانت تبدو أصغر سنا وأكثر نضارة والجميع يستغرب ويتعجب؟
أخذت تقلب بأصابعها الرشيقة أطراف اللحاف الذي كانت تلف به جسدها المتعب، كانت تبحث عن هاتفها الخلوي وابتسمت وهي تتذكر ذلك الزمن الغابر، كم هو جميل ورائع، ببساطته وعنفوانه، زمن كان للكلمات فيه معنى لأنها تنبع من القلب وتولد في الضمير الانساني، زمن السطور المعبرة والبلاغة والقواعد والنحو، إنه زمن الرسائل الخطية التي يبذل في انشائها مجهود فكري مليء بالصدق والوضوح والصراحة، رغم أنه يستغرق في وصولها أيام وربما شهور لتصل بعدها وتغمر صاحبها بالسعادة والفرح وكأنها تسابيح مقدسة..
هكذا كانت الرسائل في الأيام الخوالي، أما الآن فالهاتف الخلوي والرسائل الإلكترونية لم تبق من الصدق والجمال شيئا، كل شيء فقد معناه في هذا العصر عصر النفاق والكذب، عصر فلاسفة المنفعة والغاية تبرر الوسيلة، إنه ببساطة عصر ميكائفلي، الكل يريدك لمصلحته الشخصية ولقضاء حوائجه الخاصة فقط، أصبحنا في سوق كبير للمقايضة وتبادل السلع، عدنا آلاف السنين لعصر القبائل التي تتصارع من أجل أن تكون الأقوى والأبقى على وجه الأرض.
وتتناهى إلى مسامعها رنات موسيقية عذبة بددت سحابة الحزن التي كانت تفتك بنفسها فانتفضت مذعورة لترد دون أن تنظر حتى في الرقم الذي طلبها:
ألو، نعم؟
ألو مساء الخير..
وصمتت..
ما بك يا غادة ألم تعرفينني؟؟
خفق قلبها بشدة وكأنها تستيقظ من كابوس مزعج لتغرق في حلم وردي جميل وردت بابتسامة عريضة:
صالح، كيف حالك أعذرني.. عرفتك ولكن..؟
تلعثمت وهربت الكلمات من بين شفتيها المضطربتين..
قال لها صالح بهدوئه ورزانته المعهودة:
اهدئي، لا تقلقي..
وأجابت بعفوية:
أنا مكتئبة جدا.. ألا يمكننا أن نلتقي؟
بلى حددي الزمان والمكان حالا..
غدا إذا أمكنك ذلك..
موافق لنلتقي غدا..
شكرا يا صالح، تصبح على خير.
وأنت من أهل الخير يا عزيزتي، إلى الغد.
وأقفلت هاتفها الخلوي ووضعت رأسها على الوسادة التي كانت تتكئ عليها، استرخت، أغمضت عينيها الواسعتين محاولة أن تنام وهي تردد:
الحمد لله أنه بقي شخص على هذه الأرض لا ينتمي إلى عصر ميكافئلي..
بقلم: أمال عسول