تحت الشمس المريضة تفترش حصيرة حلفاء مسندة ظهرها إلى جذع شجرة دردار، تتأمل الصبية في لعبهم بعين أنهكها العمر، وحين يعلو شجارهم تخرج عن طور الهدوء إلى حاجتها للنهوض، لكن…
ما أثقل الجسد وأبطأ الحركة لو هي حاولت ذلك، فسرعة هؤلاء الشياطين لن تمنحها فرصة فهم ما يجري، لذلك فهي تستعين على رد شعاع الشمس عن مجال بصرها بتظليل عينيها براحة يدها وهي على قرفصتها تلك حتى تتمكّن من رؤية هذا الملعون الذي يرفث في كلامه، لكنهم يتشابهون، وفي بعدهم تخسر تحديد البادئ بالشجار كما تجهل أيّا من هؤلاء الملاعين الذي يمطر الدنيا بفحش قوله..
ثورات لعب وغضب ونزق وطيش.. فليكن، لكن لِمَ كل هذا السباب؟
ربما لاعتقادهم أنّ ثقل السمع من وهن العجز، بإمكانهم أن يقولوا ما شاءوا فلا شيء يبلغ مسمعها، وأما بطء حركتها فسوف ينجيهم من كل زجر أو وعيد، وهي تختار هذا المكان بالذات لأنه يكشف امتداد الساحة حتى آخر السياج، وفي جلستها تلك تطمع في بعض دفء الشمس الذي يرد عنها ألم مفاصلها ويكفيها شرّ الطبيب الذي ما ينفكّ ولدها يذكّرها به:
– عليك بالطبيب يا أمي.
– أنا بخير..
الألم لسعات سيجارة، نوباته تمرّغها في اليقظة، وهي تلجأ إلى التدليك مرة وإلى دفء الشمس مرات.. كل شيء يتدلّى منها، أعوامها الثمانون، جسدها المترهل، هذا البنيان المرصوص الذي انتهى إلى الخراب، العين كليلة، القرفصة تطول، والأطفال كعهدها بهم شياطين يخرجون عن كل سيطرة، يأكلون الأخضر واليابس، يكسرون أوتاد السياج الشوكي، يتسلّقون الأشجار بخفة قردة، يطاردون الدجاج، يقذفون الكرة في كل الاتجاهات.. صرخت بملء مللها:
– راكم توسخوا لي الغسيل..
ابتعدوا كلما اقتربوا، بنفس الجنون والسرعة والطيران كأنّ الهواء يتقاذفهم، وأخوف ما يخيفها أن يتمكّن أحدهم من ملاحظة هذه القطعة النابتة بين الغسيل، فما أكثر ما حذّرت، وتوعّدت، ونهرت، وانهمرت بوابل من التأنيب:
– كيف تسمحنّ لهم برؤيته؟
– يا جدّة مش عيب..
نظرات الرّيبة والخوف، اللون يغري، صغر حجمه يفتن، والأطفال أعين صقور، والفتنة في يد الحبل، في يد الهواء يقلّبها كيفما شاء، والكبار يعبرون بمحاذاة السياج، قد تطيش منهم نظرة، تشتعل رغبة، تضطرم حاجة:
– لا..لا يمكن ذلك.
مثل هذه الأشياء لا يجب أن تُرَى، على صغر حجمه، على ذوبانه بين عشرات القطع، فساتين، بنطلونات، كنزات، تنانير، وجوارب.. يطل هو، يتحدّى كل شيء ليكشف عن لونه، ويفتح تلك النّار العاصفة في عين كل ذكر:
– عيب يا يمّا انشريه في الحمام، في الداخل، في مكان لا تبلغه عين ولا تطاله نظرة.
لكن البنات صغيرات، عارفات، غير آبهات، يتضاحكن، باستهتار يتهامسن، بدلال يخرقن القواعد:
– جدّة تخرّف
فليكن إذن رمز بلوغهن، إشارة خفيّة سرّية من شجرة جسد نضج سفرجلها، به يقلن بالصوت العالي لم تعد ثمارنا فجّة، وبألوانه الزّاهية يلوّحن للأعين الجائعة، والجدّة تعترض، بأعراف الأخلاق تفعل، بالحشمة والحياء تحتج وتتساءل مثلما تساءلت مئات المرات:
– ما الذي يعلّمونه لكنّ في المدارس؟
– يا جدّة هذا غسيل كباقي الغسيل.
– الرّايح والجاي يتفرّج عليه.
– لا أحد يهتم.. أنتِ فقط ..
تقاطعهن:
– أنا مجنونة.. الويل لكنّ..
شكواها لم تعد تجدي نفعًا، وهي تلمّح لابنها أكثر مما تصرّح، وولدها لا يفهم من احتجاجها على البنات غير شكوى بريئة فلا يزيد من علاج الوضع أكثر من قوله:
– خلّوا جدّتكم tranquille
يفهم الأمر بطريقته، تباين أجيال، للكبار فهمهم الذي لا يجب أن يفرضوه على الصغار، وللصغار فلتاتهم، طيشهم، حياتهم، صخبهم الذي لا يلجمه قول ولا يحدّه فعل، أما هي فمن العيب أن تقول كل شيء.. الساحة مكشوفة، العابرون كثر، الأعين متلصّصة، ماكرة، كالملح تأكل كل شيء، والحبل يمتد بين شجيرة المشمش وجدار الطين، وشمس الخريف مريضة بالكاد تستطيع أن تجفّف الغسيل، وهو في يد الهواء يتقلّب، يغري، يشعل شيبها من دون أن تأبه له عين..
طارق لحمادي – قسنطينة-