على ترابها وُلد الأبطال

كنوز في طي الاندثار تستغيث.. “غليزان” المنطقة التي صنعت التاريخ

كنوز في طي الاندثار تستغيث.. “غليزان” المنطقة التي صنعت التاريخ

تقــع ولاية غليزان على الخط الوطني رقم 04 الرابط بين الجزائر العاصمة وعاصمة الغـرب الجزائري “وهران”، مما أهلها أن تكون همزة وصل بين الغرب والوسط والشرق والجنوب، فهي بذلك تحتل موقعا إستراتيجيا ممتازا اقتصاديـا وتجاريا، إذ يحدها من الشرق ولاية الشلف ومن الغرب ولاية معسكر ومن الشمال ولاية مستغانم ومن الجنوب كل من تيارت وتيسمسيلت، تبعد عن العاصمة بحوالي 330 كلم وعن مدينة وهران 100 كلم، وتمتد على رقعة جغرافية واسعة معظمها أراضي فلاحية خصبة، وبذلك تعتبر ولاية فلاحية.

 

مساحة شاسعة ومؤهلات طبيعية هامة

تتوفــر ولاية غليـزان على مؤهلات طبيعية وتضاريس هامة، فهي محاطة بسلاسل جبلية مقسمة إلى ثلاث مناطق أساسيــة، نجد في شمال ولاية غليزان جبال الظهرة التي تغطي دوائر مازونة وسيدي امحمد بن علي وبلدية مديونة وجزءا من بلدية الحمري بدوار الشرايطية ودواوير أخرى، أما في جنوبها فنجد جبال الونشريس التي تمتد من الشرق إلى الغرب بجنوب الولاية والجزء الجنوبي من دائرة وادي ارهيو ودوائر (عمي موسى، عين طارق الرمكة، منداس، وزمورة لتمتد ناحية الغرب لجبال بني شقران)، (بلديتا سيدي امحمد بن عودة والقلعة وبلدية لحلاف).

وتشغل سهول مينا الجزء الأوسط للولاية وكل هذه المناطق يكسوها غطاء نباتي من مختلف أنواع الأشجار والنباتات، في حين توجد بالولاية مجموعـة من الأودية والمستنقعات كوادي رهيو، وادي مينا، حوض الشلف الأسفل ومرجة سيدي عابد المتميـزة بملوحتــها.

 

تعداد السكان والخضوع لطبيعة المناخ

يسود ولاية غليزان مناخ قاري بارد وممطر شتاءً وحار صيفا مع سقوط الثلوج ببعض المناطق التي تبلغ علوها عن سطح البحر 800 متر، وذلك في جبال الونشريس وبالضبط في أعالي جبال بوركبة وكذلك بجبال بني شقران، منداس، زمورة،

والظهرة، كما تجدر بنا الإشارة إلى أن متوسط كمية الأمطار المتساقطة هي في حدود 300 مم خلال السنة، أما بالنسبة للعشرية الأخيرة لم تتجاوز 240 مم.

بلغ عدد سكان ولاية غليزان في التعداد العام للسكان والسكن الأخير حوالي 646175 نسمة وهم متمركزون في المناطق الريفية، حيث يقطن جنوب شرق الونشريس ما يقارب 52 ألف نسمة مقابل 23 ألف بالمناطق الحضرية ويسكن 29 ألف نسمة بالأرياف مقابل 44 ألف نسمة بالتجمعات الحضرية بمنطقة جنوب غرب الونشريس وبمنطقة بني شقران يوجد 6 آلاف في الريف مقابل 10 آلاف بالتجمعات الحضرية، أما بمنطقة الظهرة فيتواجد ما يقارب 54 ألف نسمة في الريف مقابل 46 ألف نسمة بالتجمعات الحضرية، أما بمنطقة وادي مينا نجد 58 ألف نسمة في الريف مقابل 170 ألف بالمدن ويخضع هذا التوزيع إلى عدة عوامل أهمها: طبيعة المناخ وطبيعة التضاريس وتوفر المياه والأراضي الصالحة للزراعة والتي مكنت من بعث نشاط اقتصادي واجتماعي.

 

تاريخ ضارب لمنطقة شهدت الحروب والفتوحات

يمتد تاريخ ولاية غليزان إلى العصور الحجرية، ويقول ابن خلدون إن سكانها من أصل أمازيغي، وقد عُرفت هذه الولاية باسم “مينا” نظرا لوجود وادي مينا بالمنطقة القديمـة.

وقـد اتخـذ إنسان ما قبـل التاريخ هذه المنطقة مسكنا ومستوطنا له واستعمل لصناعة أدواته الصخر الرملي وغيره مما تحتويه المنطقة، كما سكن الإنسان القديم المغارات، وهو ما يتضح جليا في مقابر الدولوميت الموجودة في ولاية غليزان، والكهوف التي تحمل صورا صخرية نيوليتية بكل من جبل بومنجل بالقلعة، وادي تامدة بمازونة، جبل سيدي السعيد بسيدي امحمد بن علي ومغارة الرتايمية بوادي ارهيو، ومغارة مصراتة بالقلعة.

 

المملكة النوميدية.. بداية لتاريخ غليزان

اتفق المؤرخون على أن تاريخ غليزان يعود إلى مرحلة المملكة النوميدية أي ما بين سنتي 203 و213 قبل الميلاد، والتي اشتق اسمها آنذاك من واد مينا التي تقع على ضفافه وكان سكانها بربر وهو اسم أطلقه البيزنطيون على سكان شمال إفريقيا.

 

غليزان أو الهضبة الحارة

يقال إن تسمية غليزان تعني الهضبة الحارة، وجاء في كتاب ابن خلدون “العبر” إن قبيلة بربرية حطت وسكنت بمنطقة مينا سنة 40 ق.م سميت بالعلوميين، وعرفت هذه الفترة مقاومة الإستعمار الروماني الذي دام خمسة قرون وتوسع ليمتد من سهول الشلف ومينا حتى الأطلس حيث أقيمت “خيم” بسهل “بروسدان” يلل حاليا ثم غُيّر اسم مينا إلى “إغيل إيزان” الذي يرمز إلى السهــل المحروق.

اعتنقت قبائل غليزان الدين الإسلامي بمجيئ موسى بن نصير سنة 719م – 720 م إلى أن نزلت بالمنطقة قبيلة الهوارة سنة 761 م، وحسب المؤرخين يعقوب بن صالح والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، فإنه بعد سقوط تلمسان حلت بعض القبائل الإدريسية بغليزان التي شهدت مجيء قبائل أخرى تنحدر من كتامة بنواحي سطيف وبمجيئ الفاطميين نشبت حروب بين الدويلات الإسلامية العديدة التي ظهرت بعد ذلك وهذا حسب المؤرخين ابن خلدون و”بوراس المعسكري”.

بقيت الأمور على هذا الحال وعُرفت غليزان في هذه الفترة بالمدينة الجميلة المحاطة بالبساتين يعبرها ممر إلزامي للذهاب لمدينة تيارت، حسب ما ذُكر في كتاب “المسالك والممالك” للمؤرخ أبو عبيد البكري حتى حلول الأتراك بالمنطقة وذلك سنة 1517 بقيادة بابا عروج واحتلالها واتخاذ مدينة مازونة عاصمة الغرب آنذاك، إذ تعتبر من أقدم المدن الجزائرية، وقد شارك أهل غليزان في العديد من المعارك ضد الإسبان بقيادة الشيخ الولي الصالح سيدي امحمد بن عودة.

 

إشعاع ديني عبر الزمن

وإذا نزلت في مدينة غليزان تقابلك زاوية سيدي أمحمد بن عودة، التي أسسها في مسقط رأسه وأصبحت مركز إشعاع ديني وإصلاح اجتماعي وجهاد ضد الأعداء ومأوى لإطعام الفقراء.

ولد سيدي أمحمد بن عودة عام 972 هـ بنواحي وادي «مينا» بغليزان، حيث تربى وترعرع في حضن والده سيدي يحيى الأصغر، وتعلم على يدي والده وعندما كبر توجه إلى زاوية مجاجة، فتتلمذ على يدي شيخ الزاوية، أخذ عنه التفسير الحديث والبيان في الفقه والتوحيد، وإلى غاية استشهاد شيخه، غادر الزاوية ورجع إلى مسقط رأسه.

كان كثير التنقل والسفر بين الزوايا، حتى تضلع وتثقف، سقاه حنين العافية، والعزم والأمل وهو مكب على نهر العلم، فينتصب ثم يجني ويعلو بارق وكان لا يعمل قبل أن يفكر ولا يفكر إلا تفكيرا صحيحا مستقيما، وقد وهبه الله ذهنا خصبا وذوقا سليما.

اشتهر سيدي أمحمد بن عودة ببطولته في مكافحة الاحتلال الإسباني في شواطئ تنس ومزغران والمرسى الكبير بوهران، كما رفع لواء الجهاد لرفع الحصار عن مدينة مستغانم، وقد قام بعدة معارك ضد الإسبان.

توفي سيدي أمحمد بن عودة، رحمه الله، عام 1034م.

 

كنوز في طي الاندثار تستغيث

تتعرض المخطوطات باستمرار للاندثار نظرا لقدمها، أو لعدم استعمالها وعدم العناية بها وتنظيمها، كما يتطلب ذلك تقديمها للمكتبة الوطنية للحماية والاستفادة منها، كما أن مسجد ومدرسة مازونة قد أديا دورا ثقافيا وحضاريا منذ تأسيسهما.

في سنة 1873 قام المستعمر الفرنسي بوضع الحكم الإداري الخاص به، كما تم استصلاح أزيد من 85% من الأراضي الفلاحية، وقد أطلق اسم «كاليفورنيا الجزائرية» على غليزان في تلك الفترة، وهذا نظرا لخصوبة أراضيها.

مع اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954 هبّ أبناء هذه المنطقة للمواجهة المسلحة كغيرها من الولايات الأخرى، وشارك سكان غليزان في عدة معارك وهجومات وانتفاضات ضد المستعمر.

فكان الونشريس مقر قيادة المنطقة الرابعة من الولاية الخامسة التاريخية.

كانت الاجتماعات السرية التي كان يعقدها مناضلو المنطقة مع إخوانهم في الولاية الرابعة بالونشريس، وكانت أغلبية الجماهير في الأرياف وفي المدن الجزائرية قد اتخذت منذ الوهلة الأولى موقفا شجاعا مؤيدا للثورة، ولأنها كانت مقتنعة أن هذه الثورة ما قامت إلا من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، الذي استحوذ على ممتلكاتها وكان يدوس باستمرار على قيمها.

 

غليزان.. محطة تاريخية حافلة

ترتبط ولاية غليزان ارتباطا وثيقا بتاريخ الجزائر، فبها أقدم الحواضر والمراكز العلمية كقلعة بني راشد التي تعتبر محطة تاريخية علميا وروحيا وصناعيا وعسكريا منذ العهد العثماني، وتزخر ولاية غليزان بأعلام وشخصيات هامة ومن أوليائها سيدي أحمد بن يوسف القلعي والصباغ القلعي وسيدي الشارف المازوني وسيدي يحيى المغيلي المازوني صاحب الدرر المكنونة وسيدي بوطالب المعمر المجاهد ويرجع البعض سيدي مصطفى الرماصي الفقيه المحقق إلى غليزان نظرا لنشأته بالقلعة أو قربها.

 

سكان غليزان يشاركون العثمانيين في احتلال المغرب

وفي عهد الباي محمد الكبير، أي ما بين 1602م-1752م، شارك سكان غليزان العثمانيين في احتلال المغرب وباقي شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط وبقيت على هذا الحال حتى سقوطها في يد الفرنسيين سنة 1843م وفي 04 فيفري من نفس السنة تشكلت المقاومة الشعبية وازدادت تنظيما وأعلن سكان غليزان مبايعتهم للأمير عبد القادر وفي نفس السنة عينت القوات الفرنسية الملازم الأول “بوليفاس” قائدًا لهذه المنطقة، وقد نصب ثلاثة فيالق حربية و4 أسراب من الجيش.

 

1845 معمرا نزلوا بغليزان منهم 1000 جنسية مختلفة

 

وصلت أول دفعة من المعمرين إلى غليزان، منهم 1845 معمرا فرنسيا و1000 من جنسيات إسبانية ويهودية وقضوا أول ليلة “بساحة كولونيل درونوا” ساحة المقاومة حاليا، وقد استولوا على قسط كبير من الأراضي الخصبة منها أكثر من 20 مزرعة. وقد عرفت هذه الفترة مقاومة وانتفاضة شعبية أبرزها انتفاضة الظهرة ومقاومة فليتة بزعامة سيدي لزرق بلحاج المدعو بوحمامة سنة 1864 وتلتها عدة انتفاضات أخرى، الأمر الذي استدعى اهتماما بالغا لهذه القضية من طرف فرنسا، فزار زعيمها نابليون الثالث غليزان عام 1865م للاطلاع على الوضـع واصطــدم بمظاهرات عنيفة مما صعب عليه الخروج منها أمام غضب وسخط السكان الذين تعرضوا لحوادث دموية وذلك باعتراف المعمرين أنفسهم في كتاب “غليزان كيان الصغرى” للمؤلف الفرنسي “فانسون إسكلاباس” عام 1957م.

في 1873م قام المستعمر بوضع تنظيمه الإداري الخاص وجرت أول انتخابات بلدية، وعين أول رئيس لبلدية غليزان المدعو “أغارة “المعروف بشدة كراهيته للعرب، ما بين سنتي 1871

و1956 ثم استصلاح أزيد من 85% من الأراضي الفلاحية، وقد أطلق اسم “كاليفورنيا الجزائر” على غليزان في هذه الفترة، وهذا نظرا لخصوبة أراضيها وكان لها شرف احتضان فكرة إنشاء حزب نجم شمال إفريقيا بزعامة مصالي الحاج والحاج علي القلعي الغليزاني الذي ترأس هذه الحركة السياسية.

 

الفتح الإسلامي لمنطقة غليزان

مغراوة أول قبيلة بربرية اعتنقت الإسلام بالجزائر عامة وبمنطقة ولاية غليزان خاصة، وقال فيها عبد الرحمان ابن خلدون ما يلي: “كانت مجالات المنطقة بأرض المغرب الأوسط من الشلف إلى تلمسان وجبل مديونة وما إليها، وكان لمغراوة في بدوهم ملك كبير أدركهم عليه الإسلام فأقره لهم، وحسن إسلامهم”.

 

معركة “سيدي عبد الرحيم” بغليزان تروي بسالة الثوار

احتضنت منطقة غليزان قيادة المنطقة الرابعة من الولاية الخامسة التاريخية، التي كانت شاهدة على عدة معارك وانتصارات على المستعمر وشاهدة أيضا على بطولات بقيادة شهداء وأبطال من رموز الثورة من جبال الونشريس وجبال الظهرة إلى منطقة سيدي خطاب، ومن بين أبرز هذه المعارك نجد معركة “جبل بن عبد الرحيم” التي وقعت بتاريخ 13 من نوفمبر 1957، بجبل بن عبد الرحيم بدوار العلايلية الواقع بعرش الشوالة بمنداس، استطاع فيها أفراد الجيش الوطني بقيادة “بوقندورة محمد” المدعو سي معمر، إسقاط عدد من أفراد العدو الفرنسي الذي كبدوه خسائر بشرية تمثلت في مقتل أربعين جنديا من الفرنسيين وتسعة جرحى إضافة إلى خسائر مادية كبيرة، خلال نصف ساعة من الزمن، حسب ما كشفت عنه مصادر تاريخية .

ففي صبيحة ذاك اليوم، نصبت كتيبة الجيش بأمر من قائد المنطقة الرابعة الرائد بن عدة بن عودة المدعو “سي زغلول” كمينا لدورية عسكرية فرنسية كانت قادمة من منطقة وادي سلام (منداس)، بحيث قام أفراد الكتيبة الثالثة بالهجوم على العدو، أسفرت العملية عن سقوط العديد من القتلى والجرحى من الفرنسيين، ورغم صمود الأبطال الذين واجهوا الاستعمار الفرنسي بعزيمتهم وإيمانهم بالوطن وإصرارهم على النصر على الأعداء، سقط في هذه المعركة 34 شهيدا وطفلين من بينهم قائدها المدعو سي معمر عن عمر 34عاما وذلك عقب التحاق أحد ضباط الجيش الفرنسي الذي جاء متأخرا وتمكن من الاستنجاد بوحدات النجدة والإسناد التي كانت ترابط بالقرب من هذه المنطقة، في حين كان المجاهدون متجهين إلى جبال الونشريس، فالتحقت بهم عدة طائرات ومروحيات تابعة لوحدات الكومندوس الجوي القادمة من وهران، وقصفت موقع المعركة والتي دامت يوما كاملا، تضيف المصادر التاريخية .

هذا، وقد ولد الشهيد بوقندورة محمد المدعو “سي معمر” في التاسع من فيفري 1923 بمنطقة متوسة، بولاية خنشلة، التحق رفقة الشهيد الرائد عدة بن عودة المدعو “سي زغلول” بنواحي غرب الوطن في سنة 1955، كما التحق رفقة الرائد سي عثمان في سنة 1956 وفروا مع مجموعة من الجيش الوطني الشعبي، إلى أن عين بعد مؤتمر الصومام قائد الكتيبة الثالثة بالمنطقة الرابعة بالولاية الخامسة، وقام بعدة عمليات ضد الجيش الفرنسي بجبال الونشريس، ليستشهد البطل مع 33 من رفقائه وطفلين .

ومعركة أخرى خاضها الرائد سي طارق في يوم الجمعة 19 أفريل من سنة 1957، بمنطقة أولاد موجار بالولجة بعمي موسى، عرفت هزيمة كبيرة في صفوف الجيش الفرنسي، هي معركة أولاد عثمان، التي شاركت فيها كتيبة سي طارق بـ 120 مجاهدا من الونشريس جنوبا إلى غاية منطقة الظهرة شمالا، ودامت هذه المعركة التي قام فيها المجاهدون بإطلاق النار على قوات العدو خلال أكثر من ثلاث ساعات، إذ تمكنوا من إسقاط 75 عسكريا من الجيش الفرنسي واستشهد فيها أربعة من المجاهدين وجرح أربعة آخرون، فانتقم فيها العدو من خلال قصف أهالي المنطقة بالطائرات والدبابات، استشهد العديد من المواطنين بالدواوير المجاورة لموقع هذه المعركة.