كانت الجزائر سبّاقة في وضع ترسانة قانونية في مجال حماية الشخص المسن، من خلال جملة من التدابير الاجتماعية التي تهدف إلى تعزيز مكانته الأسرية والاجتماعية، وضمان حق العيش في وسط عائلي والتمتع بكافة حقوقه التي يضمنها الدستور.
ومع كل ما تقوم به الدولة لصالح هذه الفئة، إلا أن الواقع يظهر عدم كفاية هذه الجهود، وهو ما يؤكده مختصون في الطب وعلم الاجتماع.
مساعٍ يفرضها الواقع
يرى المختصون أن اللجوء إلى إنشاء مراكز طبية مدعمة بمستخدمين مؤهلين تتكفل بفئة الأشخاص المسنين، أصبح “ضرورة ملحة” يفرضها الواقع المعاش نظرا لارتفاع عدد المسنين في الجزائر من سنة إلى أخرى.
وبهذا الخصوص، شدد البروفيسور أمحمد لعمارة أخصائي في طب العمل وعلم السموم الجينية على “ضرورة فتح مراكز طبية خاصة مدعمة بجميع الوسائل تتكفل بالأشخاص المسنين، وذلك نظرا لإصابتهم بعدة أمراض مزمنة ثقيلة من جهة، وارتفاع عدد هذه الفئة من سنة إلى أخرى من جهة ثانية”.
زيادة نسبة المسنين في الجزائر
وقد عرفت نسبة الأشخاص الذين يبلغون سن الـ 60 فما فوق ارتفاعا كبيرا، حيث انتقلت من 6.7 بالمائة من مجموع عدد السكان خلال السنوات الأولى للاستقلال البالغ عددهم 10 ملايين ونصف إلى 9.8 بالمائة خلال الآونة الأخيرة من مجموع السكان البالغين قرابة 46 مليون نسمة، حيث يرجع علماء الاجتماع هذا التطور إلى تحسين ظروف المعيشة للمواطن الجزائري سواء كان ذلك من الناحية الصحية أو الاجتماعية.
كما ساعدت هذه الظروف على تحسين متوسط العمر الذي انتقل من 47 سنة خلال سنوات الستينيات إلى أزيد من 76 سنة خلال السنوات الأخيرة، وذلك بفضل الرعاية الصحية الشاملة، حسب معطيات الديوان الوطني للإحصاء ومديرية السكان لوزارة الصحة.
تحضير ظروف ملائمة لحياة هذه الفئة
ونتيجة لهذه المجهودات المحققة في المجال الصحي، فقد بلغ عدد الأشخاص في سن الـ 60 سنة فما فوق خلال السنوات الأخيرة أكثر من 4 ملايين نسمة من مجموع السكان، ومن المتوقع أن يصل هذا العدد خلال السنوات القليلة القادمة إلى 6 ملايين نسمة، مما يستدعي توفير الظروف الملائمة للتكفل بهذه الفئة الهشة من المجتمع اجتماعيا وصحيا لأنها غالبا ما تحمل أمراضا مزمنة ثقيلة جدا.
وأكد البروفيسور لعمارة في هذا السياق أنه من واجب السلطات العمومية وكل فئات المجتمع “إعطاء هذه الفئة التي ساهمت في وقت ما في تنمية الوطن، حقها من خلال منحها معاش لائق وتشجيع المجتمع المدني على ترقية العمل التطوعي لخلق نشاطات خاصة بها بقدر المستطاع، إلى جانب حث العائلة على عدم التخلي عن ذويها من فئة العجزة”.
كما دعا من جانب آخر إلى خلق الظروف المساعدة على استفادة المجتمع من تجربة الأشخاص المسنين مهنيا في جميع القطاعات، واصفا في هذا المجال كل “حياة تزول عبارة عن مكتبة تحترق”.
التأكيد على إعداد سياسة وبرامج وقائية للتكفل الحسن
وأكد من جانبه مدير النشاطات الطبية وشبه الطبية بالمؤسسة الاستشفائية الجامعية مصطفى باشا البروفيسور رشيد بلحاج على “تعجيل السلطات العمومية في إعداد سياسة وبرامج وقائية ومرافقتها بخطة تكفل بالأشخاص المسنين من الناحية الصحية والغذائية” خاصة لأنهم يعانون من عدة أمراض مزمنة يصعب التكفل بها في الوقت الراهن بمصلحة واحدة، وذلك نظرا لعددهم الذي يعرف تزايدا من سنة لأخرى بسبب تحسين ظروف المعيشة.
وأوضح من جانب آخر أن مصلحة الاستعجالات الطبية – الجراحية لمستشفى مصطفى باشا “تستقبل يوميا عددا هائلا من الأشخاص المسنين الذين يعانون من عدة أمراض مزمنة تستدعي تكفلا بجميع الاختصاصات مما يرهق المشرفين عليها ويهملون إعطاء أهمية لبقية الفئات الأخرى من المرضى”.
وترى الأستاذة حورية أحسن جاب الله بلقسام مختصة في علم الاجتماع، أنه “من الصعب جدا التكفل بالشخص المسن الذي يعاني من أعراض مرضية وعصبية ونفسية من طرف الأبناء الذين ترهقهم الحياة العصرية، وافتقار بعضهم إلى الوسائل المادية على الخصوص”، داعية “المجتمع المدني ورجال الأعمال إلى المساهمة إلى جانب الدولة في إنشاء مراكز خاصة بفئة المسنين التي تعرف ارتفاعا في العدد”.
واعتبرت ذات الأخصائية في علم الاجتماع من جهة أخرى أن “إنشاء مراكز ومصالح للتكفل بالأشخاص المسنين، قد يساهم في تخفيف الضغط على العائلات سيما ميسورة الحال، أما بالنسبة للفئة الضعيفة من المجتمع فمن واجب الدولة التكفل بها بالمراكز التابعة لوزارة التضامن الوطني والأسرة وقضايا المرأة”.
عائلات تسيء لكبار السن
وعبرت من جانب آخر عن أسفها لسلوكات بعض العائلات التي تتخلى عن ذويها من الأشخاص المسنين أو تعاملهم معاملة سيئة دون أن يتم معاقبتها بالرغم من وجود قوانين ردعية في هذا المجال، مذكرة في هذا السياق بشيم المجتمع الجزائري المتمثلة في التضامن والتآزر وعدم قطع صلة الرحم.
وعبر مختلف الأخصائيين عن أسفهم لغياب نشاطات خاصة بهذه الفئة التي غالبا ما يجد بعضها الترفيه عن النفس عن طريق التجمع بالمقاهي أو بالحدائق العمومية أو الالتفاف حول لعبة “الدومينو” بالأحياء، في حين يعيش البعض الآخر وحدة قاتلة بالبيت تغيب فيها أدنى وسائل الاتصال والحنان والعطف.
الإعلان عن تهيئة أول ناد للمُسنين في الجزائر
شرعت جمعية “وفاء” لرعاية المسنين، في جمع التبرعات لتهيئة أكبر ناد للمسنين في الجزائر والمغرب العربي وحتى الإفريقي تتعدى مساحته 5 آلاف متر مربع كمساحة مبدئية، قبل توسيعه إلى واحد هكتار، وفي انتظار جمع التبرعات لتوفير كل الهياكل والإمكانات المادية والبشرية، تحصل رئيس الجمعية سعيد حواس، على الموافقة المبدئية لهذا النادي النموذجي بولاية بوسعادة قبل تعميم نواد أخرى في باقي الولايات الجزائرية.
وجاءت فكرة النادي من طرف مجموعة من المختصين في علم الاجتماع والنفس، والأطباء، الذين انضموا كأعضاء في الجمعية، من أجل معالجة واقع المتقاعدين في الجزائر، وفئة المسنين، إذ أكد الدكتور حكيم سفراوي، مختص في الوقاية الطبية على مستوى إحدى المديريات الصحية، أن كبار السن يعيشون موتا بطيئا في ظل التهميش، ونقص التكفل الصحي، والمعاملات السيئة في الحياة اليومية.
وقال إن وجود نواد توفر الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية، يرتادها المتقاعدون وكبار السن، للراحة والتنفيس عن وضعهم المعيشي، ولربط علاقات مع فئة شابة، وأخرى في نفس سنهم، وكذا مواصلة لنشاطهم الحرفي أو الفني، أصبح ضروريا بعد التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع الجزائري.
وتأسف ذات المتحدث، لغياب الدور الفعال للرعاية الصحية والنفسية الخاصة بالأشخاص المسنين، رغم وجود أكثر من 3 ملايين متقاعد في الجزائر، وشريحة واسعة من كبار السن الذين تجاوزوا الثمانين سنة، كما انتقد سياسة التعامل مع المحالين على التقاعد، خاصة من الذين قدموا لسنوات طويلة مجهودات وأفكار ومشاريع عظيمة.
مسنون يعانون من العزلة
يرى المختصون في علم الاجتماع، بأن التغيرات التي عرفها النسق الاجتماعي الجزائري، في السنوات الأخيرة، أثّر بشكل كبير على الأدوار الهامة، التي كان يلعبها المسن في الأسرة الممتدة، والتي كانت تسمح له بالقيام ببعض المهام، على خلاف ما يحدث اليوم، حيث فقد كل أدواره، بما في ذلك الدور التربوي، بسبب الانقسام الذي حدث في الأسرة، والانتقال إلى مفهوم الأسرة النووية المكونة من الأب والأم والأبناء.
وحسب المختصين، فيما مضى كانت الأسر التقليدية أو الكبيرة تشكل منظومة اجتماعية متماسكة، حيث مارس الآباء والأمهات مهامهم بشكل طبيعي، وبعد كبرهم أصبحوا يمارسون ما يسمى بالضبط الاجتماعي، حيث كان عملهم بمثابة المراقبين، فمثلا الجدة كانت تحل محل الروضات والمربيات، وكان الجد هو المسؤول على إدارة شؤون البيت.
إلا أن التغيرات التي عرفها المجتمع، خاصة ما تعلق منها بالانتقال إلى العيش في عمارات لا تتسع للعائلة الكبيرة، أثّر على الأدوار الاجتماعية الكلاسيكية للمسنين، وغابت حتى البركة من المنازل، وبعدما كان الجد والجدة يعتبران استمرارا وامتدادا للتربية في الأسرة، أصبح دورهما ضيقا جدا، محصورا في الزيارات العائلية في بعض المناسبات المحدودة، ما يعني بأنهم تحولوا إلى مزار موسمي يلجأ إليه أفراد العائلة، لإحياء الروابط الاجتماعية الدينية، بالتالي فإن دور المسنين، سواء الجد أو الجدة، في السنوات الأخيرة، تراجع بشكل ملحوظ وطالهم التهميش إلى حد كبير.
ل. ب