بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الإسلام سراً لظروف استدعت تلك الحال، وذلك حفاظًا منه على الدعوة الجديدة، وحتى لا يعلم المشركون بها فيقضون عليها في مهدها، وكان يدعو في هذه الفترة مَنْ يغلب على ظنه أنه سيدخل في الإسلام، وهذا من فقه وحكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع علماء السيرة النبوية على أن هذه الفترة ـ السرية ـ كانت ثلاث سنوات، وقد ظل على ذلك حتى جاءت لحظة الانتقال إلى مرحلة الجهر بالدعوة، بما قد تحمله من مواجهة وبلاء، وأذى وتضحيات، قال ابن هشام: “ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتُحدّث به، فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له ” فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” الحجر:94، وقال “وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” الشعراء:214.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قول الله تعالى: “وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” الشعراء:214، صعد النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا “جبل الصفا” فجعل ينادي: يَابني فِهْرٍ، يَابني عَدِيٍّ ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال صلى الله عليه وسلم:أرأيتكم “أخبروني” لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فَنَزَلَتْ “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ” المسد2:1. رواه البخاري.
قال المناوي “وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” الشعراء:214. أي: أنذرهم وإن لم يسمعوا قولك أو لم يقبلوا نصحك لكونهم أزهد الناس، فإن ذلك ليس عذراً مسقطا للتبليغ عنك”، وقال الخطابي: “أسلوب الحديث يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي، لأنه صلى الله عليه وسلم استنطقهم أولاً بما أقروا به أنه صادق، فلما اعترفوا ألزمهم بقوله “إني نذير لكم” إلخ، أي إذا اعترفتم بصدقي فاتبعوا لما أقول لكم”.