في دراسة أجراها بعض مختصين في علم الاجتماع وجدوا أن الرجل يتكلم في اليوم قرابة ٧ آلاف كلمة، في حين أن النساء تتكلم الواحدة منهنَّ في اليوم ٢٠ ألف كلمة. فلو طلب إلى الواحد منا أن يُصنِّف هذه الكلمات إلى خير أو شَرٍّ، لاحتار في كثير منها، أين يضعها؟ أو في أي خانة يُصنِّفها؟ وهذا يدل على أن أغلب كلام الناس اليوم مما لا فائدة منه تُرجى وليس فيه مصلحة ظاهرة، والكلام الذي ليس فيه مصلحة كأمر بمعروف أو نهي عن المنكر، أو ذكر لله أو نصيحة أو قول كلمة الحق أو مواساة لمسلم أو تعليم الخير للناس، الواجب على الإنسان أن يمسك عنه، وأن يُقلِّل منه قدر المستطاع، وهذا ما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام به، فقال “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”، وقال أيضًا قوله: “إن الله كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال”، فالعاقل الفطن هو من يمسك لسانه عمَّا لا ينفعه، وأن يوزن كلماته قبل أن يقولها، فإن كان في قوله مصلحة أظهره وبيَّنه، وإن كان فيه مفسدة أمسك عنه لسانه، وإن كان مما ليس فيه فائدة، فلا يُضيِّع وقته فيما لا ينفع أو يخوض فيما لا يعود عليه بالخير، فإن كثرة الكلام فيما لا فائدة منه قد يجُرُّ إلى المنكرات، ويُدخِل الإنسان في المُحرَّمات، يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “رُبَّ كلمةٍ جَرَى بها اللِّسانُ هلَكَ بها الإنسانُ”.
إذًا فالعاقل من جعل كلامه في الخير فلا ينطق إلا ما يرضي الله وينفع الخلق، فرُبَّ كلمة قالها لم يُلْقِ لها بالًا اهتدى بها أناس إلى الحق، وربما فتح لشخص أبوابًا كانت مغلقةً أمامه، وأقفالًا كانت موصدةً في وجهه، والأمثلة على ذلك كثيرة مبثوثة في الكتب، وقد وصَف الله تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي أصلها في الأرض وفرعها في السماء، يجني قائلها بركتها كل حين؟ قال تعالى: ” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ” إبراهيم: 24-25. وليعلم الإنسان أن هذا اللسان إذا استعمله في الخير، لرفعه في الدنيا والآخرة، وأنار له الطريق، وجمع عليه القلوب، وأحبَّه الناس، ولحصل له من الخير ما لا يخطر على بال أو يكون في خيال، يقول أبو حامدٍ الغزالي رحمه الله: “اعلم أن اللسان مِنْ نِعَم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير الجِرْم، عظيم الإحسان أو الجُرْم”. وإليك كيف فعلتْ تلك الكلمة الطيبة بأصحابها؟ وكيف أثَّرت بمَنْ سمعها، فبدَّلت أحوالهم، وغيَّرت طباعَهم واهتمامهم، وأشعلت بداخلهم نار الإبداع، وأيقظت شعلة النشاط؟
– الإمام مالك وأبوه: فقد ورد أن الإمام مالك بدأ مسيرته في طلب العلم بعد أن ألقى عليه والده مسألة في الفقه، وكان معه أخوه، فأجاب أخوه فأصاب، وأجاب هو وأخطأ، فقال له أبوه: ألهتك الحمام عن طلب العلم، قال: فغضبتُ وانقطعتُ إلى ابن هرمز سبع سنين. يعلمه العلم. فانظر كيف أن كلمة ألقيت عليه من أبيه لم يكن يعرف والده أثرَها في ابنه، شحنت هِمَّتَه، وحرَّكت نار الهِمَّة في قلبه حتى غدا راية يشد الرحال إليه في طلب العلم، وقامة من قامات الإسلام العِظام.
– الإمام الشافعي: فهذا الشافعي رحمه الله كان مُحِبًّا للشعر معجبًا به، يذهب في طلبه إلى البوادي والقفار، فلقيه رجل من الحجبة، فنصحه بترك الشعر والإقبال على الفقه، فما عساه ينفعه الشعر إن كان شاعرًا، فوقع كلامه في قلب الشافعي، وخالطت كلماته شغاف قلبه، وحرَّكت بداخله بواعث طلب العلم، فأقبل على الفقه ينهل منه، ويستزيد من فضائله حتى أصبح إمام الدنيا في عصره.