اعلم أنه إن كان في الدنيا جنةٌ، فهي جنة الأنس بالله تعالى، وحلاوة قربه، ولذة مناجاته، وعلى هذه الثمرة كانت قلوب السابقين، وهي ما عُبِّر عنها بحلاوة الإيمان. إن الإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه ثوابٌ عاجل، وجنة حاضرة؛ فهو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة. وإنما تقر أعين الناس على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل؛ فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حَسَراتٍ. ألا إن للأنس بالله ثمارًا حلوة، وينابيع عذبة، يتذوقها المؤمن بلسان قلبه، ويُشبِع بها بطنَ روحه، فلا كانت الدنيا إذا لم يكن أنس بالله تعالى. قال أويس القرني رحمه الله: “ما كنت أرى أن أحدًا يعرف ربه فيأنس بغيره”، وقال بعض السلف: “مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها، قيل: ما ألذ ما فيها؟ قال: الأنس بالله، والتلذذ بخطابه والوقوف بين يديه”، وقيل: “الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالناس غمٌّ واقع”.
إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره، ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تُقسِّي القلب، وتحول بينه وبين التفكر في آلاء الله، والتذكر لنعمائه؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للإيمان حلاوةً وطعمًا؛ كما في قوله: “ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار” رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: “ذاق طعم الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا ونبيًا” رواه الترمذي. فمن وسائل تحصيل الأنس بالله تعالى الذكر الدائم، ورطوبة اللسان بذلك، ولهجه لربه بدعاء الثناء والمسألة، وصرف طاقات الجوارح في مراضي ربه الكريم الوهاب، بالصلاة بعد الصلاة، وبالقرآن تلاوة وتدبرًا، وبالصدقة، وبالصيام، وبما أطاق من الباقيات الصالحات، وتحصيل العلم النافع والعمل به.