الأيام والأسابيع تمر ببطء هنا، متشابهة روتينية إلى أني أحيانا أشعر بالعدم وكأني مجرد جسد يأكل، يشرب وستحرك نفس العمل أقوم به كل صباح، وعلى نفس الطريقة أيضا، أنهي نهاري .. صارت حياتي في هذه القرية الصغيرة والتي لا تبعد عن المدينة الشبه ريفية إلا بثلاث أو أربع أميال مختلفة تماما، فصوت محركات السيارات، ودوي شاحنات النقل الكبيرة والتي تعبر والتي تعبر الطريق المعبد الرئيسي بشكل منتظم ومستمر يزعج أذناي ويقلق راحتي ويجعلني لا أنعم بهواء الريف النقي ولا أتمتع بسكينته ورومانسيته المغروسة في منذ الأزل. فالريف لا يفقد جماله ورونقه بصوت خرير مياه وديانه التي تشبه نغمات ناي حزين وروابيه الخضراء التي يملأ رحيق أزهارها الأنوف وحفيف خطوات رعاة الغنم وهم يمشون وراء قطعانهم منشدين أعذب الألحان، حتى نباح الكلاب وعوية الذئاب في غمرة الليالي الحالكات له سحره وجماله الآخاذ .. كنت وما زلت وسأبقى عاشقة الريف لأنه الأصالة، الطيبة والمنبع الانساني الخالد، هو الصفاء والآمان والسكينة والحب. في الأيام الأولى لوصولي وأنا متعبة، منهكة تفارق روحي جسدي فلا يربطني بوضعي الجديد سوى الذكريات، سيل من الهواجس والأحداث تبدأ تختلج في نفسي وتحتل مساحات عقلي، أشعر للوهلة الأولى وبعد تمزق وتشتت طويلين بالانتماء، نعم. أنا جزء من هذا المكان بل هو يكملني ويجعلني إنسانة متكاملة، متوازنة فأبدأ أراقب تصرفاتي وأتخذ قراراتي الصحيحة وأعيش علاقة الروح بالجسد بكامل معانيها، أتنفس، أنتعش، تحمر وجنتاي، يشتد عودي وأصبح قوية جبارة وكأني لست ذلك الشخص الخائف، القلق، المتوتر الذي حطمت عزيمته آلام الغربة وأوجس خاطره طول النوى. هذا ما يحصل معي دائما ومنذ سنوات عدة مضت .. لكن هذه المرة الأمر يختلف، ما الذي يحدث يا ترى؟. لم أرتاح، لم أستقر، لم تغمض لي عين ولم يهدأ لي ساكن، لم أشعر بفرحة الانتماء ولم أصبح جبارة كما كنت في سابق عهدي دائما، ما هذا الوهن والضعف الذي يفتت عزائمي، ما سر هذا التشتت والضياع؟ .. أتحسس دقات قلبي وأعدها مثلما يعد المحتضر الثواني التي تفصله عن لقاء ربه، لماذا لم يشف رجوعي أسقام غربتي؟ ولماذا لم يعيدني عشق الريف الكامن في نفسي منذ الأزل إلى نفسي ما هو السر؟. إن التغيير وقع في داخلي فالأشياء كما هي والأشخاص نفسهم وقريتي جميلة دائما … إذن؟؟. رغبة في الرجوع من حيث أتيت تكبر وتكبر فلا أقدر على مقاومتها، الشوق والحنين يحرق كل شيء بداخلي، شعور عميق، جميل رقيق يولد في أعماق فؤادي ويأمرني بالرجوع اليه، لقد فهمت السر الآن، إنه هو من يناديني فلا أجد سبيلا لردعه، سأعود اليه، هو ينتظرني في محطة القطار كالعادة وفي قلب المدينة الساحلية حيث أحيا قدر الغربة وأتجرع كأس عذابها المرير…
أمال عسول