من الأحياء إلى المنتزهات ومن العاصمة إلى أنحاء الوطن
يُلاحظ السائر في شوارع وأحياء العاصمة منظر النفايات المنتشرة، ما يمنحك شعورا بالاشمئزاز، خاصة عندما ترى رمي القمامة بطريقة عشوائية في الطريق أو بمكان عمومي، أو حتى من نافذة السيارة، وفي بعض
الأحيان ترى القمامة منتشرة أمام المكان المخصص لها، في سلوك غير حضاري يستنكره الجميع.
وبالمقابل يمتلك بعض من المواطنين حسا حضاريا عاليا، ويسعون في شكل مبادرات فردية وجماعية من أجل تحسين المنظر العام وإدخال السرور والبهجة في قلوب الغير دون كلل أو ملل، ومن هؤلاء من ينظم حملات لتنظيف المحيط والأحياء دون مقابل، بل وبوسائل وإمكانيات خاصة وبسيطة كما هو الشأن مع مجموعة “بيناتنا نديرو الخير”، وهم شباب جمعتهم مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التطوع لمبادرات خيرية مثل زيارة المرضى في المستشفيات ودور العجزة وتقديم يد العون للأرامل والأيتام ومن بين ما بادر به هؤلاء الفتية، مشروع من أجل الحفاظ على نظافة البيئة والمحيط عنوانه “تعيش ما ترميش” كانت بدايته بالحي الشعبي باب الواد بالعاصمة، حيث كان له صدى كبيرا بين المواطنين الذين استحسنوا المبادرة وانخرطوا فيها.
وبعد نجاح فكرة تنظيف الحي، بدأت مبادرة “تعيش ما ترميش” في الانتشار بين أوساط الشباب في الكثير من أحياء العاصمة بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا الفايسبوك، بالإضافة إلى توزيع الملصقات التي تحمل شعار حملة “تعيش ما ترميش”.
ثم بدأ تفكير المجموعة في توسيع المبادرة لتشمل أماكن تواجد العائلات في الحدائق والمنتزهات كغابة بوشاوي بالعاصمة ومنتزه الصابلات، وكذا تجمعات الشباب كالملاعب والدورات الرياضية وغيرها، وكذا إيصال حملة “تعيش ما ترميش” إلى صغار السن في المدارس الابتدائية عن طريق عروض مسرحية هادفة، تَحُثُّ الأطفال وترسخ في أذهانهم مفهوم الحفاظ على البيئة وعن طريق الأطفال سيصل الشعار إلى العائلة التي تساهم بدورها في إيصاله إلى الحي ثم تشمل المبادرة كل المدينة ولم لا كل مدن الوطن حسب طموح أصحابها.
بداية الانتشار وطنيا كانت هنا وتحديدا في الملتقى الوطني للشباب المتطوع بالبويرة كان من تنظيم جمعية ثيغرين ميزين ومجموعة طلبة الخير، حيث التقى “شباب بيناتنا نديرو الخير” أصحاب مبادرة “تعيش ما ترميش” بـ 35 جمعية مشاركة من مختلف ولايات الوطن، التحقت بالمشروع 20 جمعية تمثل عشرين ولاية من بينها: تلمسان، أدرار، سيدي بلعباس، تيميمون، عنابة، حاسي مسعود، عين الدفلى، أم البواقي، غليزان، البيض وفي العاصمة الكثير من البلديات…
وبعد ذلك دخلت المجموعة في مرحلة أخرى من الحملة شعارها “علاش علاش” عبارة عن رسالة قصيرة للعائلات محتواها لماذا تقتني العائلة كل مستلزمات التنزه والخرجات من مأكل ومشرب بمبالغ كبيرة لكن لا تفكر في شراء كيس لرمي القمامة بـ 20 دينارا، فكان الشباب المبادر يقصدون تواجد العائلات ويوزعون أكياسا بلاستيكية بها ملصقة مكتوب عليها عبارات تذكّر المواطنين بضرورة الحفاظ على نظافة المحيط بسلوكيات بسيطة ودون عناء.
مبادرة شبابية لاقت دعما إعلاميا
وقد لاقت حملة الشباب المتطوع للحفاظ على البيئة دعما من طرف وسائل الإعلام وخصوصا الإذاعة الوطنية بكل قنواتها، مما زاد في انتشار المبادرة من جهة وأعطى دعما معنويا لهؤلاء الشباب في التفكير لتطوير مبادرة “تعيش ما ترميش” إلى مشروع نموذجي لـ “مدينة نظيفة” تختار فيها كل مرة مدينة من مدن الجزائر ويطبق فيها مشروع المبادرة كاملا.
ويسعى شباب مجموعة “تعيش ما ترميش” في شكل هدف بعيد المدى عبر تطبيق يكون في الهواتف النقالة والمشاركة في مشروع المدينة الذكية الذي أطلقته الحكومة مؤخرا، حيث وعبر تطبيق “تعيش ما ترميش” في الهواتف يصور أقرب منسق للحملة المناظر المخلة للبيئة ونظافة المحيط وعبر الإحداثيات وتطبيق “جي بي اس” يتم إبلاغ الجهات المعنية بذلك.
“أنا والورقة”.. قصة حب تحولت إلى مسلسل يومي كاريكاتوري
“أنا والورقة” .. يتبادر إلى ذهنك وأنت تقرأ هذا العنوان بأنك أمام مؤلف لديوان شعر أو لرواية أو مخطوط لفن من الفنون لكن يمكن أن يكون كل ذلك، إذا كان الأمر يتعلق بشاب اسمه محمد دحمان بلقاسم أمين من العاصمة مهندس دولة في تسيير المدن ورسام كاريكاتوري، بينه وبين الورقة قصة حب طويلة بدأت بحبه لرسم القصص المصورة وللرسومات الكاريكاتورية ثم استمرت وصارت الورقة جزءا من يومياته تلازمه أينما حل وارتحل .
يحمل أمين حسا حضاريا راقيا يحب وطنه ويحب أن يراه جميلا دوما، لكن ما أفسد ود أمين وعكر مزاجه – كما يروي لنا- تصرفات الكثير في الأزقة والأماكن العمومية خصوصا ما تعلق بالسلوكيات التي تضر بالبيئة ونظافة المحيط العام، فقرر أمين واتفق مع الورقة على أن يحارب كل ما من شأنه تخريب المشاهد الجميلة في البلد وإفساد سعادة الآخرين، ما يقلقني -يقول أمين- هو ترسخ السلوكيات السلبية المعادية لنظافة المحيط لدى البعض حتى أصبحت أمرا عاديا ثم جزءا لا يتجزأ منهم.
ويذهب المهندس محمد دحمان أمين لأبعد من ذلك في شرحه لسيناريوهات التغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحراري خصوصا التي نعيشها اليوم، فمناخ العاصمة مثلا قبل عقود من الزمن وما تشهده اليوم مخيف حقا إن لم نتدارك الوضع، وننقذ ما يمكن إنقاذه في محيطنا المضغوط الذي صار أشبه بالبيت البلاستيكي.
في منظر من المناظر المفزعة بإحدى مدن العاصمة -يقول أمين- آلمني وأنا مار بمكان عمومي جميل أجد قطعا من اللحم الكبيرة والعظام مرمية ومتناثرة على الأرض بصورة بشعة شوهت المكان… وجه أمين سلاح الورقة صوب المنظر في شكله الحقيقي ورسم على جزء الورقة صورة لنسر جارح قبيح المنظر يأكل الجيفة، في رسالة لمن سولت له نفسه العبث بهذا المكان الجميل. … أيضا وفي أحد المشاهد المؤسفة والمتكررة لرمي القارورات البلاستيكية يرسم أمين على ورقته قارورة بلاستيكية تحاكي راميها “أنت لن تعمر على هذه الأرض طويلا، أما أنا فسوف أعيش أربعمائة سنة”.
وقد ساعد وسيط التواصل الاجتماعي فايسبوك كثيرا في إيصال رسالة أمين التوعوية، بالإضافة إلى مساعدته في التعرف على نشطاء كثيرين في مجال البيئة من داخل وخارج الوطن وكذا تشجيعه ودفعه إلى المزيد من العمل حيث يتابع صفحة “أنا والورقة” ما يقارب 14 ألف متابع.
ويأمل أمين في أن تصل رسالته للحفاظ على البيئة ونظافة المحيط على الأقل لفردين أو ثلاث في كل حي في شكل بذور خير وسعادة تزرع في كل مدننا، تؤثر في المحيطين بهم لأجل حي نظيف ومن أجل مدينة نظيفة ومن أجل إنسان أكثر وعيا وتقديرا للبيئة.
ماذا لو تدمج الجهود.. ؟
لا يختلف اثنان في أن مطالب الجزائريين خلال عشرية الدمار لم تتعد رؤية الأمن والاستقرار يملأ ربوع الوطن. ..وبعد أن تحققت نعمة الأمن والأمان بدأت طموحات الشعب تتطور حسب تطور المستوى المعيشي وحسب مستوى المواطنة مثله مثل كل شعوب المعمورة، حيث رافق تلك التطورات جهود جبارة للدولة في مجال التنمية ولا ينكر إلا ناكر ما بذلته الدولة من أجل تحسين الأداء العام، خصوصا ما تعلق ببناء المرافق العمومية والهياكل وإعادة بعث وتزيين الحدائق ولنا مثال في حديقة التجارب بالعاصمة كمرفق مهم ومتنفس كبير للعائلات وكذا ساحة كيتاني بباب الواد، بالإضافة إلى مشروع إعادة تهيئة وادي الحراش والمساحات المحيطة به من أجل تحويله إلى سابق عهده وجعله أكبر منتزه سياحي وترفيهي بالجزائر، إلى غاية منتزه الصابلات الذي هو مقصد يومي لكل الفئات، وقس على ذلك في كل الولايات التي شهدت هي الأخرى حركية تنموية في جميع الأصعدة، ما يعني أن ميزانيات ضخمة صرفت وجهود كبيرة بذلت ولا زالت…
لكن بالنظر لما يقوم به الشباب المتطوع في مجال حماية البيئة وكذا الجمعيات وكل الناشطين فيها هي أيضا جهود ومبادرات رائدة، وجب التفكير في الاستثمار فيها ودمجها ضمن هذه المشاريع، أولا من أجل الحفاظ على هذه المكاسب المنجزة، وثانيا من أجل فتح المجال أمام هؤلاء الشباب لتشجيعهم والاستفادة من أفكارهم ومقترحاتهم، كي لا تبقى تلك الورشات الضخمة هياكل بلا روح أو تترك هكذا أمام الإهمال وتعود إلى سابق عهدها.
وتثبت هذه المبادرات التي بدأت بشكل محتشم ونجحت في التوسع والانتشار وجود بذرة التحضر التي لا تحتاج إلا إلى رعاية وتوجيه، فالمواطن الجزائري ليس ذلك اللامبالي كما يصوره الاحباط العام، فيكفي أن يجد مبادرة صادقة، ومساع نبيلة لتهتز نخوته ويستعيد نبله وتحضره..