تعدُ محمية “بلزمة” بباتنة من أجمل المناطق الطبيعية الجزائرية، فهي تمنح المار بهذه المنطقة إحساسا كبيرا بالمتعة، وهو يتأمل المناظر الطبيعية الرائعة التي تحيط به من كل جانب، فتنسيه مشقة الطريق.
ورغم جمال محمية “بلزمة” إلا أنها لا تحظى بشهرةٍ واسعة تناسب جمالها، إذ ما يزال زوارُها قليلين والكثيرُ منهم يكتشفها بمحض الصدفة وهو يمر بها في طريقه إلى مناطق أخرى.
رحلة ممتعة بين قرى ومداشر المحمية
الرحلة في قلب “بلزمة” رائعة حيث المناظرُ الخلابة، التي تستقطب الزوار والسواح ومن أجمل ما قد يراه السائح قرى ومدن المنطقة مثل “واد الماء” و”الرحاوات” و”عين جاسر” و”حيدوسة” و”سريانة” و”مروانة” وهي تربض في الأسفل بينما تحيط بها الجبال والحلل النباتية الخضراء من كل جانب.
وعلى قارعة الطريق الجبلي، تترصد عائلات أماكن لركن سياراتها والنزول بعض الوقت لتأمل المشاهد الجميلة واستنشاق الهواء النقي الذي تجود به الطبيعة والجبال المحيطة، ورؤية البيوت الريفية المعزولة وقطعان الغنم والبقر التي تملأ مناطقَ عديدة.
ويمكن للزائر أن يصل إلى المحمية عن طريق “سريانة” ليرى مناظرَ أخرى، فالسهول تمتد على مرمى البصر وتكسوها أشجار الصنوبر إلى غاية مدخل مدينة “مروانة” والمناظر لا تقل روعة عن مناظر طريق “الشلعلع”، ما يعني أن المنطقة تمتاز بتنوع نباتي هائل.
وتقول بيانات إدارة محمية “بلّزمة” إن المنطقة تحتوي على 510 أنواع نباتية مختلفة، 18 منها محمية بموجب القانون الذي صنفها حظيرة وطنية في عام 1984، وأهمها الأرز الأطلسي والأرز الحلبي.
إلى ذلك، يقول مدير المحمية السعيد عبد الرحماني إن “عمر بعضها يصل إلى 300 سنة وإن بها أربع أشجار نادرة من نوع أرز الهمالايا”.
ويضيف “تبلغ مساحة محمية “بلزمة” 26.250 هكتارا، وهي تتوسط بمساحتها الشاسعة ولايات قسنطينة وخنشلة وبسكرة وسطيف.
وتتكون من خمسة جبال تقع ضمن سلسلة جبال الأوراس الشهيرة بأنها قلعة الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وترتفع عن سطح البحر بـ 2178 متراً من خلال قمة جبل “ريفا” وتليها “ذروة الأرز” بجبل “توقرت” على علوِّ 2090 متراً وتضم واحدة من أكبر غابات الأرز بالجزائر”.
ويوضح عبد الرحماني “يعيش في غابات محمية “بلّزمة” الشاسعة 395 نوعاً من الحيوانات، منها 111 نوعاً من الطيور، 40 منها محمي قانوناً، و177 نوعاً من الحشرات، 13 منها محمية، و18 نوعاً من الثدييات كالضباع والقطط المخطوطة، و19 نوعاً من الزواحف كالحرباء والسلحفاة اليونانية و5 أنواع من البرمائيات و241 نوعاً من اللافقاريات، ونوعان فقط من الأسماك”.
ثروات متعددة
لا تقتصر ثروات حظيرة “بلزمة” على التنوع النباتي والحيواني الكثيف، بل تمتد أيضاً إلى ثروة أخرى من الآثار النادرة التي يعود أغلبها إلى العهدين الروماني والبيزنطي في الجزائر، فضلاً عن “ضريح الأمراء النوميديين” في فترة ما قبل الميلاد، لتتميز بذلك بآثارها عن باقي الحظائر الـ9 بالبلد.
ويمكن لزائر “بلزمة” أن يرى بكل سهولة ووضوح جانباً من هذه الآثار بمنطقة “تازولت” (12 كم غرب ولاية باتنة) حيث ينتصب أثرٌ روماني شامخ يتمثل في أحد الأبواب الرومانية للمدينة، وغير بعيد عنه، يمكن رؤية “القلعة البيزنطية” التي اتخذها البيزنطيون برجاً لمراقبة محيط المنطقة، وحافظت القلعة على نفس الوظيفة في عهد الفتح الإسلامي، وبجانبها عدد كثير من الشواهد الرومانية ومتحف حديث للتحف الأثرية. فضلاً عن ثروات المحمية من أنواع حيوانية نادرة وأشجار صنوبر وأرز، وكذا مواقع أثرية، فإنها تحتوي أيضاً على ثروة نباتية كبيرة يمكن الاستفادة منها في الاستطباب بالأعشاب واستحضار مواد صيدلانية وتجميلية.
ويؤكد عبد الحفيظ حمشي، رئيس قسم التوجيه والتنشيط بالمحمية أنه تمّ “إحصاء 120 نبتة طبية ذات مواصفات عالية، الكثير منها معروف لدى السكان المجاورين للمنطقة، وبعضها نادر لا يوجد إلا في الحظيرة مثل نبتة “روزا كانينا” التي تعدّ أوراقها مقوِّية ومنشِّطة، وشجيرة “الضرو” التي يعالج زيتُها مشاكل الهضم، ونبتة “العرعار” التي تعالج مشكلات اللثة والجرب وتصلب الشرايين، وتصنّع منها مواد تجميل”.
ومع أن باعة الأعشاب تزايد عددُهم في السنوات الأخيرة بالمنطقة بعد أن تزايد الطلب على أعشابها، إلا أن حمشي يؤكد أن استعمالها لا يزال محدوداً ولم تلق نباتاتُها اهتماماً من أصحاب المخابر الصيدلانية لاستغلالها في مجال صناعة الأدوية والتجميل. إلى ذلك، يقترح مدير الحظيرة عبد الرحماني على شباب المنطقة إنشاء تعاونيات والاستثمار في غرس هذه النباتات النادرة التي يمكن استغلالُها في أغراض طبِّية واسعة.
شجرة الأرز الأطلسي إرث طبيعي مهدد بالتماوت
تُشكل غابات الأرز الأطلسي أكبر المساحات الغابية بالحظيرة الوطنية بلزمة بباتنة بمساحة قدرها 5600 هكتار، وتُعد شجرة الأرز الأطلسي شاهدا على حقب تاريخية بشمال إفريقيا كونها تُعمر لقرون من الزمن، كما تُعد شجرة من الأصناف النادرة، بحيث يتواجد منها أربعة أنواع عبر العالم هي الأرز القبرصي، اللبناني، الهيمالايا، والأطلسي بشمال إفريقيا.
ويتواجد الأرز الأطلسي في شمال إفريقيا في دولتي الجزائر والمغرب فقط، وبالجزائر يتواجد عبر أربع مناطق هي جرجرة، شريعة، ثنية الحد، والحظيرة الوطنية لبلزمة التي تضم أكبر مساحة منه، ومن خصائص هذا النوع من الأشجار أنه يعمر طويلا لقرون من الزمن ويأخذ شكلا طبيعيا جميلا بشموخه .
وتواجه شجرة الأرز الأطلسي مخاطر عدة، أبرزها ظاهرة الاضمحلال الطبيعي التي ظهرت منذ سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن تستفحل بشكل أكبر منذ سنة 2004، وحسب مدير الحظيرة الوطنية لبلزمة فإن نتائج دراسات وأبحاث أثبتت أن الظاهرة ناتجة عن التغيرات المناخية.
حيث أكد بأن المديرية العامة للغابات أولت اهتماما كبيرا لظاهرة الاضمحلال من خلال تنظيم ملتقى علمي لدراسة ومعرفة الأسباب، وكان يُعتقد بأن الأمر يتعلق بمرض أتى على مساحات من غابات الأرز الأطلسي قبل أن يتبين بأنها ظاهرة طبيعية.
وقد أوضح مدير الحظيرة الوطنية لبلزمة، بأن دراسة علمية “دوندروكرونولوجية” أجراها باحث أمريكي من أصول سورية يسمى رمزي توشنت حول أسباب تماوت الشجرة، أثبتت أن الأمر يتعلق بظاهرة طبيعية ناتجة عن التغيرات المناخية خاصة ما تعلق بالجفاف، مضيفا في ذات السياق بأن الدراسة التي تستند على تحليل الحلقات الدائرية في الخشب التي تبرز عمر الشجرة كشفت عن تقلصها، وهو ما أرجعه الباحث إلى موجات جفاف تحدث كل خمسين سنة وأصبحت تحدث كل 30 سنة.
ورشة وطنية لتقييم منافع المحمية الطبيعية
شكل تقييم منافع الحظيرة الوطنية لـ”بلزمة” كمحمية طبيعية، موضوع ورشة وطنية احتضنتها مؤخرا، المدرسة الوطنية للغابات بمدينة باتنة، بمبادرة من المديرية العامة للغابات، والشراكة مع الصندوق العالمي للطبيعة.
تندرج هذه الورشة التي تعد “الرابعة من نوعها” في الجزائر، بعد تلك التي نظمت حول الحظائر الوطنية “قوراية” ببجاية، و”طازة” بجيجل، و”القالة” (الطارف)، حسب المكلف بمكتب الحظائر الوطنية بالمديرية العامة للغابات، السعيد فريطاس، في إطار تنفيذ الاستراتيجية الجديدة لحماية المناطق المحمية وتنميتها المستدامة.
تهدف الورشة إلى تقييم منافع هذه الحظائر بطريقة تشاركية مع الجمعيات الناشطة في المجال البيئي والسكان الموجودين داخل هذه المحميات، وكذا المجاورين لها، إلى جانب العديد من القطاعات الأخرى التي لها علاقة بها، وحسب السيد فريطاس “فإن الجزائر تضم حاليا 8 حظائر وطنية، والتاسعة سيفرج عن مرسومها “عما قريب”، وتقع بين ولايات سطيف وجيجل وبجاية”.
من جهته، أكد المكلف بمكتب شمال إفريقيا للصندوق العالمي للطبيعة، الذي يوجد مقره بتونس سامي ذويبي لـ”وأج”، على هامش هذه الورشة، أن هذه العملية شملت إلى حد الآن 15 محمية طبيعية، بكل من تونس والمغرب والجزائر، في انتظار توسيعها إلى 11 محمية أخرى بهذه الدول الثلاث، بغية تسهيل حمايتها والمحافظة عليها، إلى جانب تسهيل الحصول على دعم مالي دولي لتمويل مشاريع بها، وفق وسيلة تقييم المنافع الموجودة بها، متفق عليها عالميا.
تقوم هذه الوسيلة، لتقييم منافع المحميات والحظائر الطبيعية وفق ممثل الصندوق العالمي للطبيعة بالجزائر، كريمة يحيى، على إشراك السكان القاطنين داخل هذه المحميات أو المجاورين لها، مع الجمعيات الفاعلة في الميدان، وهي تتضمن الإجابة على 24 سؤالا، ليتم بعد ذلك تحليل المعطيات المتحصل عليها، والخروج بمشروع قابل للتجسيد الميداني ويتم اقتراحه للحصول على التمويل.
تعد هذه المبادرة، حسب مدير الحظيرة الوطنية لـ”بلزمة”، السعيد عبد الرحماني، هامة بالنسبة للحظيرة الوطنية لـ_بلزمة” التي تم تصنيفها في جوان 2015، من طرف مجلس التنسيق الدولي لبرنامج “الإنسان والمحيط الحيوي”، ضمن 20 موقعا جديدا أضيف للشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي، موضحا أن هذه الورشة تضمنت عدة مداخلات، منها التعريف بالحظيرة الوطنية لـ ”بلزمة” وما تحتويه من تنوع بيولوجي.
من جهته، أشار مدير المدرسة الوطنية للغابات بباتنة، عثمان بريكي، إلى أن هذه الورشة تندرج في إطار الاهتمام بالمحميات الطبيعية وتثمينها، كما أنها تفتح آفاقا واعدة للتفتح على منافع الحظائر الوطنية، من خلال إشراك المجتمع المدني والجمعيات، مع توفير التكوين اللازم لها في الميدان.
للإشارة، تم على هامش هذه الورشة التي حضرها ممثلون عن العديد من الجمعيات الناشطة في الميدان، مثل أصدقاء “بلزمة” وجمعية “امدغاسن” ومحافظة الغابات ومديرية البيئة، تنظيم خرجة ميدانية إلى قطاعات الحظيرة الوطنية “بلزمة”، “الثلاثة”، “فسديس”، “حملة” و”وادي الماء”.
لمياء. ب