مليانة.. هي ليست مجرد مدينة ذات تاريخ مرتبط بوجوه ثورية واجهت الاستعمار الفرنسي، أمثال الشهيد علي لابوانت والشهيد أحمد بوقرة ومؤسس الكشافة الجزائرية محمد بوراس، بل هي مدينة ضاربة في عمق التاريخ تجمع الجمال الطبيعي والمعالم التاريخية والأعياد الشعبية، كعيد الكرز، الذي يعرف في المنطقة بنوعيته الرفيعة لدرجة تسميته بـ “حَبُ الملوك”، إضافة إلى الأعياد الدينية كالمولد النبوي الشريف ومولد سيدي أحمد بن يوسف. هذه العوامل كلها اجتمعت لتجعل المدينة مقصداً مغرياً للزوار والسياح.
يعود تأسيس مدينة مليانة إلى الحقبة الرومانية، حينها سماها مؤسسها الإمبراطور أوكتافيوس زوكابار (بين القرنين 27 و25 ق.م)، وجعلها حامية عسكرية. لم يكن خيار الإمبراطور أوكتافيوس عبثياً، بل كان مدروساً من وجهة نظر رجل عسكري، رأى في علوها بـ720 متراً عن سطح البحر، وتفرع مسالكها نحو مناطق عديدة، ما يؤهلها لتكون مركزاً حربياً.
معالم المدينة التاريخية لن تجدها في غيرها
متحف الأمير عبد القادر
الأمير عبد القادر بن محي الدين من أشهر الأمراء العرب في التاريخ، سياسي ومحارب ورجل فكر معروف بتأسيسه للدولة الجزائرية الحديثة. مرّ الأمير عبد القادر بمدينة مليانة وإدراكاً منه لأهميتها حوّل مقر إقامة القائد التركي المعروف باسم “دار الباي” إلى مقر لخلافته بين العامين 1835 و1840. نال هذا المبنى المؤسس على الطريقة العثمانية شهرة واسعة، ما جعل الإمبراطور الفرنسي لويس نابليون الثالث يزوره عام 1865، بعد تغيير اسمه إلى “دار الأمير” بعد الاحتلال الفرنسي للمدينة.
وأعيد افتتاح المبنى كمتحف بعد إعادة تأهيله سنة 2000 من قبل رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة، ويحتوي المتحف عدة قاعات كانت في الأصل حجرات صالحة للسكن أو العمل من أهمها:
– قاعة الآثار الرومانية: تحوي بقايا معمارية، ونصباً أثرية، وقطعاً نقدية كشواهد مادية عن مدينة زوكابار الرومانية.
– قاعة المخطوطات والإثنوغرافيا: تحوي مجموعة من المخطوطات التي تعود إلى القرنين 18 و19 حول علوم الدين واللغة والحساب، إضافة إلى مجموعة من الحلي والألبسة والصناعات التقليدية، وكنز نقدي يعود إلى عهد الموحدين “القرن 12”.
– قاعة المقاومات الشعبية: تضم مسدسات وبنادق تقليدية، وعدداً من الوثائق التاريخية والصور، واللوحات الزيتية المخلدة لبطولات الأمير عبد القادر.
– قاعة التراث المنجمي: تحوي أدوات وقاطرة أشغال لمناجم جبل زكار القريب من المدينة، إضافة إلى صور ووثائق حول المنجم.
– قاعة حرب التحرير الوطنية: خصصت هذه القاعة لتاريخ ثورة التحرير الوطنية، وتضم مجموعة من صور لقوافل شهداء المنطقة، ووثائق وقطع أسلحة وعدداً من اللوحات الزيتية المخلدة لنضالات أبناء المنطقة.
منارة جامع البطحاء أو ساعة المدينة
معروف أن الأمير عبد القادر رجل دين أيضاً، وليس غريباً أن يتخذ من المبنى المقابل لمسجد البطحاء، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الحقبة العثمانية، مقراً لإقامة الخليفة، ومسجد البطحاء واحد من 25 مسجداً كان موجوداً آنذاك في المدينة. خرّبه المستعمر الفرنسي عام 1844 وجعل من أرضيته ساحة فسيحة أطلق عليها اسم “ساحة كارنو”، ولم يُبقِ سوى على منارته التي حولها إلى ساعة. أطلق اسم القديس “سانت بول” على الشارع الذي يضمها، والآن تنسب الساحة إلى الأمير عبد القادر.
والجميع في مدينة مليانة يقدّر قيمة الساعة الكبيرة التي لا تأخذها فقط من وزنها التاريخي والأثري، بل من مكانها القريب من المتحف، الذي يعد قلب المدينة، إذ تقام حوله الاحتفالات ذات الطابع الديني.
مسجد ومزار الولي سيدي أحمد بن يوسف
تفيد الوثائق الرسمية بنسب الوليّ الشهير أحمد بن يوسف (1436-1524) إلى الإمام علي بن أبي طالب، ويؤدي المسجد الآن وظيفته كمكان لأداء الصلاة، بينما أقفل المزار منذ سنوات في وجه الزائرين الذين يعتقدون ويطمعون في “شفاعة” الوليّ، بحجة الترميمات التي يعود تاريخ بدايتها إلى عشر سنوات. ولم يمنع الإغلاق الزائرين من التمسح على أعتاب باب المزار، وقضاء وقت في فنائه الرحب والمجهز بكراس حجرية تستخدم للجلوس حيناً، وأحياناً لكسر حبات البيض لأغراض تبقى حبيسة في نفوس من يقدم على هذا الأمر!
السور الروماني.. ملتقى الأصدقاء ولمّة العائلات
يعتبر السور الروماني أحد أشهر معالم المدينة، ملتقى للأصدقاء والعائلات، التي تتخذ من المقاهي البسيطة المنتشرة على طوله مكاناً للراحة والاستمتاع بالجو خصوصاً في مساءات الصيف. يطوق السور الجهة الجنوبية لمليانة ويعطي رؤية بانورامية لمدينة “الخميس” الواقعة على بعد 7 كيلومترات أسفلها.
ويعطي حال السور انطباعاً صريحاً ومباشراً بإهمال رسمي فظيع وغير مبرر، فقد تداعى جزء منه وسقط عام 2012 بسبب الرياح والأمطار، وتعرض جزء آخر للتلويث المتعمد منعاً لتجمع العشاق. إذ يعتبر جلوس ثنائي في مكان عام في الجزائر عيباً يجب محاربته. أنشئ السور في الفترة الرومانية كحماية للمدينة، وهو الآن بحاجة إلى من يحميه من الأيادي المخربة.
وجوه ثورية وأيقونات وطنية
قدّمت مليانة عدداً من الوجوه الثورية التي تحولت إلى أيقونات، وهم حاربوا المستعمر الفرنسي. أكثرهم شهرة الشهيد علي لابوانت المولود في المدينة عام 1930. والشهيد محمد بوراس مؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية، واحدة من الوجوه السلمية التي أثارت ذعر الاستعمار الفرنسي بسرعة توسعها ودقة تنظيمها واتصالاتها داخل البلد وخارجها، وتم تزيين ساحة المدينة بعدة لوحات شرف خصصت للشهداء، أهمها لوحتان مقابلتان للحديقة العمومية الكبرى للمدينة، دونت عليهما أسماؤهم لتبقيا فخراً لعائلاتهم التي لا يزال عدد كبير منها يسكن المدينة.
مصنع الأسلحة
خضع المبنى لإعادة تأهيل أواخر 2015، تحضيراً لاستقبال الوزير الأول الجزائري، وهي عادة إدارية تجعل التكفل بالمرافق العمومية رهن زيارة المسؤولين الكبار في الدولة.
المبنى لم يعد مصنعاً للأسلحة، بل متحفاً يضم قاعات عرض في الطابقين الأول والثاني، وقاعة للاستقبال، وقاعة للنشاطات، وبيتاً للضيوف، وقاعة للمطالعة في طابقه الثالث.
رحالة تردّدوا عليها عبر الأزمنة
تقع مدينة مليانة على سفوح جبال زكار، فهي مدينة حصينة، وبناءات متصلة يتردّد عليها الرحالون، فأجمعوا على محاسن الموقع وكثرة المياه التي تتدفّق من سفحه.
وهذه المدينة ذات أسوار سميكة متينة في وسط القصبة وحمامات تجمع إليها أهل الناحية، والجداول ترقرق معزوفة، الطريق إليها صعبة وملتوية نحو الأعلى ونافورة الماء تلطف جو الدار كلّما وقع النظر، حيث تطالعك الجبال الخضراء والغابات كبحر أخضر، والبساتين والسواقي والأشجار المثمرة على أفنانها الثمار اليانعة والورود وأنواعها تضفي الأرض بهجة.
هي مدينة ذات أشجار وأنهار جدّدها زيري بن مناد وأسكنها ابنه بلكين، بقعتها كريمة ومزارعها خصبة ونهرها يسقي أكثر مزارعها وجنانها.
لقد برزت الأهمية الحقيقية للمنطقة في العصر الإسلامي عندما أعاد بولوغين بن زيري وهو من أشهر أمراء صنهاجة، أين ساهم في بناء مدينة مليانة وجعلها عاصمة سياسية على جزء كبير من بلاد المغرب الكبير، حيث شهدت ازدهارا مرموقا في الزراعة والتجارة.
بدأت تتطور وتتّسع وتزدهر وتنتعش بها الحياة حتى صارت عاصمة، ومن خلال الملامح العامة تبدو أنها كانت حصنا منيعا في تحصّنها بجبل زكار.
وفي العهد التركي كانت مليانة تابعة لبايلك الغرب وعاصمتها مازونة، وقد أدرك الأتراك أهمية مليانة الإستراتيجية وذلك لكونها تشرف على الطريق الواصل بين الجزائر والغرب، وكان المسافرون ينزلون إليها طلبا للراحة والاستجمام.
من أشهر علمائها الولي الصالح سيدي احمد بن يوسف (931 هـ – 1526 م)، الذي صال وجال المدن الجزائرية الساحلية والهضاب العليا كالمدية وتنس والبليدة.
فسكان المنطقة كان أغلبهم من الأمازيغ، وقد امتزج السكان بالأندلسيين القادمين من غرناطة بعد سقوطها في 1492، وأدى إلى إدخال تغيير كبير على الوضع الاجتماعي والثقافي لسكان المنطقة. والجدير بالذكر أن بني مناصر كان لهم زاوية البركاني شمال مليانة، كانت مركزا دينيا وإداريا وثقافيا.
قصة مقاومة ونضال
وفي مرحلة الاحتلال الفرنسي 1830 – 1962، اتخذ الأمير عبد القادر مليانة حصنا وذلك سنة 1835 وعين عليها خليفته محي الدين الصغير، وبعد وفاته عين مكانه محمد بن علال حاكما لمدينة مليانة، وكان الأمير يعين العسكريين بالمساجد لتنظيم المقاومة ومواجهة العدو.
لقد تمّ تعيين امحمد بن عيسى البركاني خليفة الأمير عبد القادر على منطقة التتري، وهذه الطريقة إحدى مميزات للأمير.
وأنشأ الأمير منشآت حربية بها، منها مصنع الأسلحة والبنادق والرماح، وكانت المادة تستخرج من منجم زكار، وظلت مليانة منطقة مستقلة ولم يتم غزوها بسهولة إلا في 08 جوان 1840.
شاركت قبائل المنطقة تحت قيادة محمد بن علال وبني مناصر بمقاومة جبارة، وألحقت بالعدو خسائر لا مثيل لها وهذا باعتراف ضابط فرنسي.
وفي سنة 1841 قاد الجنرال “بيجو” حملة عسكرية على منطقة مليانة، وأعدّ الأمير العدة لصد الهجوم وألحق هزيمة نكراء بـ “بيجو” وعساكره، ووصف أحد ضباط العدو أنّ هذه الحادثة الأولى من نوعها لـ “بيجو” منذ تولّيه على الجزائر.
وظلّت الأجيال تتوارث هذه القيم النبيلة، فامتهنوا المقاومة والكفاح ضد العدو، فسجّل الشعب الجزائري صفحات خالدة لم تتوقف المقاومة بمنطقة مليانة وضواحيها، فشهدت انتفاضات عارمة ضد العدو الفرنسي بشمال مليانة بثورة بني مناصر التي كانت تحت لواء الأمير 1835، وكانت انتفاضة أخرى 1871 تحت قيادة محمد البركاني واستعمل فيها العدو أبشع الوسائل لقمعها، وانتفاضة عين التركي بمنطقة حمام ريغة سنة 1901 بقيادة الشيخ يعقوب، والتمرد كرد فعل ضد قانون التجنيد الإجباري سنة 1912 م أين رفض شباب المنطقة الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي رغم المسخ والفسح وعملية التنصير والتمسيح، إلا أن سكان المنطقة حاربوا هذه الوضعية محاربة شاملة.
ظل التعلم باللغة العربية مستمرا في كافة القرى والأرياف وضواحيها، وتعتبر هذه المنطقة وضواحيها من أغنى مناطق الوطن، فقد وصل عدد الزوايا بها لتعلم القرآن الكريم والدراسة قبل الثورة التحريرية أكثر من 100 زاوية، زيادة على الكتاتيب.
تعتبر أحداث ماي 1945 من نتائج الحرب العالمية الثانية التي كان سكان المنطقة يعلّقون عليها آمالا كبيرة، حيث كانوا ينتظرون أن تفي فرنسا بوعودها لكن تبّخرت الوعود، وواجه العدو المتظاهرين بالقمع وكانت هذه المجازر كبيرة.
رجال رفضوا عمليات الغزو، وقد سجلت مصالح حركة المقاومة وجيش التحرير سلسلة من الانتصارات لضرب مصالح الاستعمار والمعمّرين.
معارك جيش التّحرير في الواجهة
كم كان ماضي الاستعمار الفرنسي مؤلما ومظلما، كان النضال يحرك صفوف جيش التحرير الوطني بإيمان قوي.
كان التحضير للثورة قد انطلق منذ أمد بعيد بالوحدة الوطنية والتماسك التام بين الشعب الجزائري والثورة قائمة في الجزائر يتوقّف نجاحها على استقلال الجزائر.
بدأ شباب المنطقة يستعد لخوض غمار الثورة، منهم سي أمحمد بوقرة، سي بلكبير عبد القادر، الشيخ العربي، امحمد رايس، بوركايب نور الدين، الزنداري، محمد بوراس، علي لابوانت، سي موسى بوراشد، سي حمدان، عمر بلمحجوب، عبد القادر بسكري والبغدادي وأمثال أحمد بن بلة، رابح بيطاط، بن يوسف بن خدة، محمد بلوزداد، أحمد محساس ومحمد خيثر وغيرهم.
لم يكن هذا التحريك إلا دليلا على أهميتها، حيث كان مناضلوها يتمتعون بالوعي السياسي، وبروح وطنية استعداد للثورة ضد العدو المحتل وأعوانه.
لمياء. ب