يجد الجزائريون في الحدائق والأماكن العمومية، أفضل مكان لتقوية العلاقات الاجتماعية بين الأشخاص، سواء بين أفراد الأسرة الواحدة أو الذين تربطهم علاقة صداقة أو غيرها من العلاقات التي صارت متنوعة وتأخذ أشكالا عدة، كما أنها تبرز واجهة البلاد وتمنحها مظهرا يميزها عن غيرها من الدول.
ولهذا قامت الدولة الجزائرية بتخصيص أموال كثيرة في سبيل إنشاء فضاءات عمومية في العاصمة على اختلافها من متاحف ودور السينما والحدائق.
حديقة التجارب الحامة قبلة الجزائريين الباحثين عن الطبيعة
يشتكي سكان العاصمة من قلة الفضاءات العمومية التي تزداد الحاجة إليها يوما بعد يوم، فنجد الكثير من الأسر خاصة الأولياء في حيرة كبيرة من أمرهم وتجدهم دائما يتساءلون “إلى أين يأخذون أولادهم؟”، لأنهم يجدون بعض الحدائق لا ترقى لتكون مكانا للاستراحة رغم أنها مخصصة لذلك، ويجمع الأغلبية على أن حديقة الحامة أنسب مكان، وذلك ما يفسر الإقبال المتزايد عليها منذ أن فتحت أبوابها للمواطنين، بعد أن أعيدت تهيئتها، رغم الشروط المفروضة على الزائرين، وكذا ثمن الدخول، إلا أن ذلك يهون في سبيل قضاء سويعات من الراحة وسط تلك الخضرة أو التمتع بمشاهدة الحيوانات، كما تعد حديقة الحيوانات هي الأخرى فضاء مشتركا تسمح للطفل بالتعرف على أسمائها والتقرب منها وكسر حاجز الخوف لديه من الحيوانات، إلا أنه و بالرغم من أن العديد من الأشخاص يرون أن حديقة التجارب الحامة هي المكان المناسب إلا أن هناك بعض المعارضين للأمر، إذ يقولون إن حديقة التجارب خلال فصل الشتاء ليست المكان المناسب لأبنائهم بسبب الروائح التي تنبعث منها بسبب عدم وصول أشعة الشمس إليها مما يجعل أبناءهم يصابون بمرض الربو أو بأمراض تنفسية أخرى.
ميسونيي أفضل فضاء للمسنين من أجل قضاء أوقاتهم
الفضاءات العمومية والمساحات الخضراء، كانت ولازالت مساحة مشتركة للتعارف وبناء الصداقات بين المسنين، وهذا ما نجده ونشاهده على أرض الواقع بساحة ميسونيي أو ما تسمى حاليا بساحة فرحات بوسعد الواقعة بالعاصمة، تلك المساحة التي تم تقسيمها إلى قسمين، واحدة خصصت للنساء والأخرى للرجال، وهذه المساحات الخضراء تعرف إقبالا واسعا من طرف المسنين المتقاعدين و كبار السن لدرجة أن المتجول بهذه الفضاءات لن يتمكن من رؤية وإيجاد أي كرسي واحد من تلك الكراسي المتواجدة بهذه الفضاءات العمومية فارغة، إلا عندما تسوء حالة الطقس وتتهاطل الأمطار.
المتوافدون على هاته المساحات تجدهم متداولين على ذلك بصورة يومية لاسيما قاطنو المناطق القريبة، لأنهم يعتبرون هاته المساحات الخضراء والفضاءات متنفسهم الوحيد، وهذه الأمكنة رغم بساطتها تعتبر مكانهم المفضل للاجتماع والتكلم عن شتى المواضيع وفي كل الجوانب الاجتماعية، الاقتصادية الرياضية وحتى السياسية، حيث يكثر الجدال والنقاش وتتضارب الآراء، هذه هي الأجواء الطاغية على الفضاء العمومي الرجالي بحي ميسونيي، وعن رأي المواطنين في هذا الفضاء يقول أحد الوافدين إليه عمي رابح في الستينات من العمر: “ساحة ميسونيي هي الوجهة المفضلة للشيوخ والعجائز مثلنا الذين يأتون من الأحياء القريبة، وبغض النظر عما تتبادله النساء من أحاديث، نجده نحن الشيوخ مكانا لتبادل الأفكار والآراء، خاصة وأن أغلبنا لا يجد من يسمع لحديثه الطويل سوى شيخ مثله، وهذا الفضاء معروف بتوافد فئة معينة من شيوخ ذلك الحي، ولكن هذا لا يمنع من التعرف على بعض الأشخاص الجدد الذين يقصدون المكان لأخذ قسط من الراحة”، وعليه فإن هذه الفضاءات العمومية تلعب دورا اجتماعيا كبيرا لا يقتصر على التعارف وبناء الصداقات بين مختلف الفئات، بل تطورت إلى بناء علاقات متينة، يقول عمي عمار 68 سنة في ذلك: “ترددي على ساحة ميسونيي جعلني أتعرف على شيخ مثلي هو من أخرج ابني من أزمة البطالة التي نخرته منذ أن تخرج من الجامعة، وأثناء تبادلنا لأطراف الحديث ذات يوم قال لي إن ابنه مسؤول بإحدى الشركات الجزائرية وبإمكانه توظيف ابني وهذا ما حدث فعلا”.
وكذلك الحال بالنسبة للنسوة، فالأمر لا يختلف كثيرا، حيث وجدن ضالتهن في تبادل أطراف الحديث مع بعضهن البعض، حيث تجدهن يقصدن المكان خلال الفترة الصباحية قبل التسوق أو بعده، في حين تفضل بعض النسوة الأخريات الاجتماع مساءا بعد صلاة العصر حين تكون الشمس ساطعة، أين تجد أن كل واحدة منهن تجلب معها منسجا خيطيا لتكمل ما كانت قد بدأته من أعمال يدوية، فيما تفضل بعضهن اصطحاب أحفادها ليغيروا قليلا من جو البيت، وإن اختلفت نوعا ما الأحاديث التي تميز الجلسات النسائية عن الجلسات الرجالية، فالمرأة بطبعها تسعى دوما لإفراغ شحنة الهموم التي لاقتها طوال حياتها، وتجد أخرى تشتكي جارتها، زوجها أو أم زوجها أو حتى كنتها لتفتح القلوب على بعضها، تقول إحدى المتوافدات إلى هذه الفضاءات لنا: “أقصد المكان يوميا خلال الفترة المسائية، حيث أجتمع ببعض صديقاتي، وكل واحدة منهم تحكي ما طرأ على حياتها من جديد لنستمتع بشرب الشاي وأكل المحاجب التي تأتي بها إحدانا أو نشتريها من محل مختص في صناعتها بالقرب من المكان الذي نجلس فيه للاستمتاع بوقتنا”، كما أكدت لنا أخرى أن هذا الفضاء كان مكان التقاء عدة نساء لم يكن يعتقدن يوما أنهن سيسامرن بعضهن بعضا، فتقول ذات العجوز: “العديد من العجائز بنت علاقات صداقة متينة فيما بينهن انطلاقا من هذا المكان الذي يجتمعن فيه لدرجة أن الواحدة تطلب يد ابنة الأخرى لتكون زوجة لابنها أو أخيها أو أحد معارفها”.
إن هذا الفضاء كان وما زال مقصد الكثير من المسنين لكسر الروتين اليومي الذي يلازم أغلبيتهم، كما كان ولازال أيضا فرصة لبناء أسر جديدة بشهادة الكثيرين ممن توافدوا وتعودوا على هاته الأمكنة في مختلف أقطار الوطن.
المدارس الجزائرية وانعدام المرافق
المدرسة ورغم أنها تعتبر فضاء للتربية والتعليم، إلا أن العديد من المختصين يرون ضرورة توفير مساحات خضراء داخل هذا المحيط المدرسي والتي يمكن استغلالها في العديد من النشاطات التي تجعل الطفل لا يمل من المدرسة، بل يتشوق إليها ويحب الذهاب إليها، وهذه المساحات الخضراء تساهم المدارس في تنظيم الرحلات إليها، بالإضافة أيضا إلى تمكين دور الشباب والجمعيات من تنظيم رحلات وخرجات إلى هاته المساحات الخضراء من أجل ترسيخ مبدأ الحفاظ على البيئة عند الطفل الذي يعتبر رجل الغد، وفي نفس السياق نلاحظ أن الدولة الجزائرية أصبحت تحرص حرصا كبيرا على توفير فضاءات عمومية ومساحات خاصة للًعب بكل الأحياء الجديدة، وذلك بهدف أن يحظى طفل المدينة ولو بجزء قليل من الراحة التي تمنحها الطبيعة، فقد تبين أن أطفال المناطق الداخلية يستفيدون من الطبيعة أكثر من غيرهم، فتجدهم ينطلقون بين أحضانها لتبعث تلك الخضرة على الاطمئنان في نفوسهم، حيث تشير الدراسات إلى أن الفضاء الأخضر له العديد من الفوائد العلاجية بالإضافة إلى عنصر الترفيه، وعليه فإن كل المواطنين يستفيدون من الفضاءات العمومية بدون استثناء من أجل الترفيه عن أنفسهم و تنفيس الهموم عنهم، لذا فإنه تقع على كل واحد منا في هذا المجتمع مسؤولية حماية المساحات الخضراء والفضاءات العمومية من خلال تنظيم طريقة الاستفادة من جل تلك الفضاءات والحدائق العمومية وتجنب أشكال التحطيم لكل ما هو عمومي.