من ربوع بلادي: النجمة الساطعة في أفق الصحراء الشاسعة “بسكرة”… عروس الزيبان والحضارة الضاربة في عمق التاريخ

من ربوع بلادي: النجمة الساطعة في أفق الصحراء الشاسعة “بسكرة”… عروس الزيبان والحضارة الضاربة في عمق التاريخ

بسكرة.. مهد للحضارة وبلاد العلم والثقافة والسياحة، فبالماضي التاريخي والبطولي الحافل بالتضحيات والجهاد المقدس تنطلق المسيرة التنموية في مجالات متعددة بولاية بسكرة نحو آفاق الازدهار، فهي عاصمة

الزيبان، بوابة الصحراء الكبرى، منذ الأزل كانت بسكرة همزة وصل بين الشمال و الجنوب ومعبرا سياحيا جد هام، إذ باتت تزخر بموقع استراتيجي تألقت فيه ثرواتها ومؤهلاتها، بسكرة تلك النجمة الساطعة في أفق الصحراء الشاسعة عروس تحلت بجواهر الزيبان، بوابة الأجيال والأفكار، مسلك لأهم مناطق الجنوب، من هنا نشأ المفكرون ومن هنا بدأت العبقريات وتجلت في طبيعتها قدرة الخالق، وأينما كنت فهي تدعوك في رحلة، كل ما فيها جديد ومثير وتضمن لك الإقامة المريحة والنزول الممتع… وكل حقوق الضيافة مضمونة عند مدينة الكرم بسكرة.

 

كما أن الموقع الذي تنفرد به ولاية بسكرة أمدها بخصائص وثروات متعددة، وجعلها متحفا طبيعيا لآثار تاريخية هامة تركتها الحضارات المتعاقبة على أرضها، فهي تستقطب السياح من كل صوب وحدب، حيث نجد المعالم الطبيعية بالولاية لها طابع خاص، جذاب ومتنوع، الأمر الذي أعطاها صورة مميزة ومن أهمها منعرجات مشونش نحو بسكرة، بساتين النخيل، حديقة 20 أوت، حديقة 05 جويلية، حديقة لندو (بسكرة)، منعرجات ومضيق القنطرة، غابات وجبال عين زعطوط، طريق سياحي جمورة برانيس، منعرجات سياحية مشونش نحو غوفي، مضيق خنقة سيدي ناجي مضايق وقرية جمينة والكباش، مضايق سيدي مصمودي، بالإضافة إلى غابات النخيل الجد الشاسعة، التي تمد كل الجزائر بأنقى وأجود أنواع التمور” دقلة نور” ذات الشهرة الدولية.

 

الاستثمار السياحي بالتنوع الطبيعي والإنتاج البشري

تتضمن الولاية عدة خصائص طبيعية وإمكانيات مادية وبشرية متنوعة، قادرة على النهوض بالقطاع السياحي، ودعم الحركة السياحية أيضا، حيث تمتلك مناطق مصنفة كمناطق توسع سياحي لتكامل فضائها من المناظر الطبيعية، الينابيع، المياه المعدنية، السدود بالإضافة إلى ثروة طبيعية مختلفة تستعمل في الصناعة التقليدية كالطين، الجبس، الرمل الزجاجي، التربة الحمراء، كل هذه المؤهلات والموارد السياحية تعد فضاء خصبا للاستثمار، ولهذا الغرض تم إدراج 06 مناطق توسع سياحي يمكنها استقطاب عدد هام من المشاريع السياحية هي بسكرة، طولقة، القنطرة، الشقة، فم الغرزة، خنقة سيدي ناجي بالإضافة إلى 8 مناطق توسع سياحي جديدة مقترحة مؤهلة لجلب عدد هائل من المشاريع السياحية المختلفة.

 

.. مهد لأعرق حضارة

يفرض، الحديث عن بسكرة، الرجوع إلى تاريخها العريق وموقعها المتميز، فهي تضرب جذورها في أعماق التاريخ، حيث تعاقبت على أرضها الحضارات والثورات من العهد الروماني إلى الفتوحات الإسلامية إلى الغزو الفرنسي والاستقلال، بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي باعتبارها بوابة الصحراء وهمزة وصل بين الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب وبمناخ وتضاريس مثمرة أيضا، كل هذه المعطيات أعطتها أهمية عبر كافة المراحل والعصور التاريخية، كما كانت الحضارات قديما على ضفاف الأودية والأنهار وعلى منابع المياه وفي الأماكن الحصينة والمنيعة، فإن الحركة العمرانية لمدينة بسكرة انطلقت من مصادر المياه فكان منبع حمام الصالحين ومنابع رأس الماء البدايات الأولى ببسكرة فشكلت منابع الحمام ما عرف بـ “بيسينام ” حيث عثر بالقرب من هذا الحمام على بقايا أثرية، أما الثانية فكانت النواة الأولى لما عرف في العهد الروماني “فيسيرة” ويبدو أن طبيعة ماء منبع الحمام حالت دون توسع “بيسينام” ليترك المجال إلى “فسيرة” لتتحول إلى بسكرة الحالية مع الفتوحات الإسلامية ولتتوسع تحت ظروف تاريخية ومعطيات جغرافية اقتصادية وحضارية.

 

… وجذور ضاربة في التاريخ

ما تزال التسمية الأصلية لعروس الزيبان التي تعرف الآن ببسكرة محل خلاف المؤرخين سواء كانوا عربا أو أجانب، فمنهم من يؤكد أن اسمها مشتق من كلمة “فسيرة” الروماني الأصل والذي يعني الموقع التجاري نظرا لتقاطع طرق العبور بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب، ومنهم من يرى أن التسمية الأولى هي “بيسينام ” وهي كذلك رومانية وتعني المنبع المعدني نسبة إلى حمام الصالحين، في حين يرى البعض الآخر أن كلمة بسكرة ترمز إلى حلاوة تمرها دقلة نور، تلك الثمرة التي تزخر بها المنطقة.

 

…تاريخ مجيد يشهد له الجميع

يشهد الجميع بالتاريخ المجيد لهذه المدينة التي ضربت جذورها في القدم، ويرتبط تاريخ المدينة مع تاريخ مناطق الجنوب والجنوب الكبير، بحيث أرجعت دراسة تاريخ المنطقة إلى حوالي 7000 سنة قبل الميلاد وقسمت تطورها إلى أربعة أقسام أساسية، بحيث ميزت كل مرحلة بحيوان كان يعيش في ذلك الوقت وعلى تلك الرسوم التي وجدت على الصخور والحجارة، فالمرحلة الأولى من 7.000 إلى 5.000 قبل الميلاد سميت بمرحلة البوبال، وهو حيوان يشبه إلى حد كبير الثور، أما المرحلة الثانية تمتد من 3.000 (ق.م) وسميت بمرحلة “البقر”، المرحلة الثالثة ابتداء من 1.200 ق.م سميت بمرحلة “الحصان”. للإشارة لوحظ على الرسوم الموجودة أن الأسلحة المستعملة من طرف قبائل هذه المرحلة تشبه إلى حد كبير الأسلحة التي يستعملها “الطوارق” حاليا (الخنجر والدرع)، المرحلة ما بين القرن الثالث والأول قبل الميلاد سميت بمرحلة “الجمل” خلال هذه المرحلة يلاحظ أن الحصان يفسح المجال للجمل وهذا ما يجسد تصحر المنطقة وبروز قبائل.

 

…فتحها عقبة وطرد منها الرومان

يعني الزاب بالأمازيغية واحة، وبسكرة واحة ضمن واحات الزيبان، غير أن ابن خلدون قد عرّف الواحة بأنها “وطن كبير يشمل قرى متعددة متجاورة أولاها زاب الدوسن، ثم زاب مليلي، ثم زاب بسكرة، زاب تهودة، وزاب بادس، وبسكرة أهم هذه القرى كلها”، وقد خضعت المنطقة للاحتلال الروماني فالوندالي ثم البيزنطي وتركوا آثارا ما تزال تشهد على الأهمية الإستراتيجية للمدينة وطابعها العمراني المتميز، ومع الفتوحات الإسلامية وخلال القرن السابع الميلادي (663م) تمكن القائد “عقبة بن نافع” من فتح بسكرة وطرد الحاميات الرومانية من المنطقة، فكان هذا الحدث تحولا بارزا في تاريخ المنطقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا. وقد تعاقبت على المدينة بعد الفتح عدة دويلات وخلافات الزيريون، الهلاليون، الحفصيون، الزيانيون، ثم الخلافة العثمانية من القرن 16 إلى القرن 19، خلال فترة العصور الوسطى تميزت بالطابع الإسلامي في شتى مناحي الحياة وبرز ذلك من خلال ما كتبه المؤرخون والرحالة العرب وما بقي من آثار لا تزال شاهدة على ذلك. وباحتلالها من طرف الفرنسيين عام 1844م ونظرا للطابع الاستيطاني والعنصري للاحتلال الفرنسي وضعها كنقطة انطلاق للتوسع في الجنوب، إنشاء حامية لتكون نواة لمدينة جديدة في المكان المسمى “رأس الماء” باعتباره موقعا استراتيجيا حساسا، لتنمو وتتوسع تلك المدينة مع توسع المدينة القديمة ويكون هذا الإهتمام منصبا حول تنمية وتطوير المدينة الجديدة حيث يقيم المعمرون.

 

فندق الزيبان… إقامة مريحة، نزول ممتع وكل حقوق الضيافة مضمونة

تشمل الحظيرة الفندقية ، لولاية بسكرة ، مجموعة من الهياكل والمنشآت الفندقية المعتبرة، حيث تتوفر على ما يقارب1421 سريرا و666 غرفة موزعة على 5 فنادق مصنفة و14 فندقا غير مصنف.

ومن أشهر فنادق المنطقة “نزل الزيبان” وفندق “حمام الصالحين”، كما تحظى الولاية بمطاعم مصنفة تعد أطباقا شعبية مختلفة بشكل مميز وفريد، أما فندق الزيبان الذي نزلنا فيه، فيعد من أهم الهياكل السياحية في بسكرة والجنوب الجزائري، هو واحد من الفنادق التابعة لمؤسسة التسيير السياحي، يحتوي على 98 غرفة و7 أجنحة، ذات الهندسة المعمارية العربية و الصحراوية الأصيلة، عمال الفندق كانوا على موعد تقديم أجود خدمات الاستقبال، فبمجرد دخول الزبون يحس بحفاوة في الاستقبال، فابتسامة مستخدمي مصلحة الاستقبال وطلاقة وجوههم تشعرك بأنك في بيتك وبين أهلك، ما يعكس كرم وحفاوة سكان منطقة الزيبان، زد إلى ذلك خدمات الإطعام في الوجبات التي تنوعت بين وجبات عالمية إلى التقليدية الجزائرية والمحلية منها على وجه الخصوص الشخشوخة البسكرية، ولمن يريد الانغماس أكثر في الأجواء الصحراوية، فعليه التوجه إلى خيمة الفندق لارتشاف الشاي الصحراوي في جو هادئ ودافئ.

 

القنطرة… أو قدم هرقل 

القنطرة هي من أجمل الأماكن المعترف بها في السياحة العالمية هناك الجبال العالية والنخيل باسقات، وخاصة الجسر الروماني ما زال حتى اليوم، فهي بلدية وواحة تقع في شمال ولاية بسكرة والتي تبعد عنها بـ 54 كم، وهي مدينة صغيرة هادئة قليلة السكان، وهي همزة وصل بين الشمال وجنوب وسط الشرق الجزائري وهي تجمع بين طبيعتي الصحراء والتل في مناخها وطابعها الجغرافي، هناك احتمال واحد لا ثاني له وهو أن القنطرة تعتبر حلقة وصل بين التل والصحراء في هذه المنطقة فاعتبرت بمثابة الجسر الموصل، كما سميت في العهد الروماني كالكيوم هركلوس ومعناها “قدم هرقل” انتسابا للإمبراطور الروماني الذي كان يحكم الجزائر آنذاك تقديسا لقوته وشجاعته، بنيت القنطرة في العصر الروماني وكانت مركزا حضاريا في المنطقة، وكانت تعرف باسم “الجاثي كالكوس” (أي حذاء هرقل) وفي عام 1862 وتحت حكم نابليون الثالث تم إعادة تصميم الجسر بالكامل ليعكس عبقرية الهندسة الفرنسية، حيث نحت الوجه الجانبي لنابليون من طرف جنوده على صخرة على قمة جبال القنطرة إلا أن هناك من يقول إن الصخرة تكونت طبيعيا .كما أظهرت الدراسات أن سكان القنطرة من أصل بربري، والعديد من الأسماء التي عثر عليها هناك تؤكد ذلك. على سبيل المثال “واد أغروم”، الذي يرمز إلى النهر الذي هو مصدر الرزق والحياة. صنفت القنطرة كموقع تراثي وطني من طرف وزارة الثقافة الجزائرية بسبب تواجد أثار الرومان الباقية كالجسر الروماني المتبقي وسط الفج المشهور.

 

جمال باهر… طيبة الأهل… وكرم واسع

ومن أجمل الأماكن وأروعها في بسكرة منطقة مشونش وكذلك طولقة وبلدية الدوسن التي توجد فيها أجود التمور، تلك التمور الذهبية التي تمتلك طعما ومذاقا لا يوجد في أي مكان إلا في هاتين المنطقتين، وطولقة تعتبر مدينة ثانية لبسكرة وهي بلدة العالم الشيخ محمد حسين الخضر، وكذلك قرية فوغالة المتميزة بواحات النخيل وهي جنة من جنات الأرض وأكبر بلدية في ولاية بسكرة وأشهرها هي مدينة سيدي خالد التي هي قرب مدينة أولاد جلال وهي مدينة سياحية وتاريخية أثرية تحتوي على آثار قديمة وبها مسجد الشيخ الصالح خالد بن سنان وهو من المساجد القديمة في المنطقة، كما توجد في بسكرة أجمل الحدائق الموجودة في الجزائر الواسعة كحديقة “جنان لاندوا” حيث تشمل أنواعا مختلفة من الأشجار والنباتات النادرة في البلدان الأخرى، حيث تحتل المرتبة الثانية في الجزائر من حيث الجمال بعد حديقة التجارب بالحامة بالجزائر العاصمة.

 

بسكرة… مركز الإشعاع الديني الواسع

تعددت الآثار الإسلامية في بسكرة وتنوعت، من هنا نمر على مزارات وهناك نمر على مساجد، تضم أغلبها مخطوطات في مختلف مناهل العلوم، من لا يعرف مسجد وضريح الفاتح المعروف عقبة بن نافع الفهري، والمركب الإسلامي ذا الطابع العمراني المتميز، الواحة وهي مزارة تضم 314 جنديا من خيرة جيش عقبة بن نافع استشهدوا أمام حصن تهودة وتحتوي أيضا على تحف ذات قيمة تاريخية، باب المسجد الذي يزيد تاريخه عن ألف سنة، نقوش عربية على الحجر من الحقبة الأولى للفتح الإسلامي للمنطقة، وتعتبر أقدم نقشية عربية غير منقوطة مزارة سيدي خالد المعروف لدى بعض المؤرخين بخالد بن سنان العبسي، تعرف هذه المزارة بمهرجان سنوي ليلة25 و26 رمضان، حيث تقام به احتفالات وتجمعات من مختلف مناطق الوطن، بالإضافة إلى عدة زوايا ومساجد عتيقة تعتبر رموزا للمنطقة، أهمها مقام سيدي زرزور، مقام عبد الحفيظ الخنقي ،مقام عبد الرحمان الأخضري (مخادمة)، باب المسجد مهدي، سيدي عبد الرزاق، زاوية أولاد جلال، مسجد سيدي مبارك بخنقة سيدي ناجي.

 

بسكرة… موعد مع تظاهرات واحتفالات طيلة السنة

تحيي ولاية بسكرة تظاهرات واحتفالات تقليدية تنطوي على الكثير من المتعة والروعة مثل عيد الربيع، عيد التمور (فصل الخريف) وتظاهرات فلكلورية أخرى، تاريخية وفكرية، كالملتقى الجهوي للسياحة الصحراوية وذكرى تأسيس خنقة سيدي ناجي وتظاهرة سيدي خالد.

 

  .. هنا بدأت العبقريات

أنجبت مدينة بسكرة عبر العصور فطاحل وأدباء وشعراء وعلماء أجلاء، ومن بين أبرز أعلامها الشيخ الأخضري صاحب المنظومة المرجعية الشهيرة في سجود السهو، بالإضافة إلى علماء أمثال الشيخ الطيب العقبي، الشاعر أبو بكر بن رحمون، أحمد رضا حوحو، ومن الأعلام المعاصرين نجد الشاعرين عمر البرناوي وأبو القاسم خمار، والإعلامي التلفزيوني المعروف سليمان بخليلي والعقيد أحمد بن عبد الرزاق الملقب بسي الحواس الذي أسس الثورة في الجنوب والعقيد علي ملاح وغيرهم، استقطبت هذه المدينة التاريخية اهتمام ومحبة كل الزوار الذين حلوا بها وعاشوا تحت سمائها، شعراء، فنانون، أدباء، قناصون، رياضيون ومؤرخــون، كتب عنها المؤرخ الكبير ابن خلدون والأديب الفرنسي اندريه جيد وغيرهم،

والعالم الجليل أبو بكر جابر الجزائري.

 

ومن هنا مر كارل ماركس والجاسوسة ابنة عم تشرشل والعائلة الملكية البريطانية

لطالما كانت بسكرة قبلة للشعراء الأدباء والملهمين بالصحراء، الكتابة، الفنون الجميلة خاصة الرسم، حيث أُنشئت فيها مدرسة الأدباء الجزائريين، وسجلت اسمها بأحرف من ذهب، وتحولت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى مقصد كبار الفنانين والكتّاب والشعراء، حيث زارتها ابنة عم رئيس الوزراء البريطاني تشرشل كلارشيريدان، التي أعجبت بها ومكثت بها 10 سنوات كاملة من 1926 إلى غاية 1936 وعادت إليها لتستمتع بالحياة البسيطة لسكان الصحراء وأرخت لها في كتابات مزجت بين الرومانسية والتاريخ، ولعل من أهم من زار بسكرة الفيلسوف كارل ماركس والعائلة الملكية البريطانية الذين ألهمتهم بسكرة بمناظرها الخلابة، حماماتها الطبيعية، حيث قدموا إليها للاستجمام والتداوي وعلاج الأمراض الصدرية وداء المفاصل.

 

شرفات الغوفي…عندما تمتزج لفحات الصحراء بهواء الجبال المنعش

تقع قرية غوفي في بلدية غسيرة دائرة تكوت ولاية باتنة، اسم غوفي الأصلي هو فلوس وتسمية فلوس وضعت تشبيها للجوزة لأن حدائق (بساتين) غوفي واقعة بين سلسلتين صخريتين وكذا الجوزة فالجزء الذي يأكل منها واقع بين فلقتين (أفلوس نتلجوزة)، أما تسمية غوفي فهي عن قائد عسكري فرنسي.

بدأت شرفات غوفي بباتنة المنتصبة بأقصى بلدية غسيرة على مشارف ولاية بسكرة المجاورة تستعيد بسحرها الخلاب ود السياح تدريجيا بعد أن افتقدتهم وغابوا عنها لسنوات، فالموقع الذي تمتزج فيه لفحات الصحراء بهواء الجبال المنعش ويتزاوج فيه لون الرمال الذهبية مع خضرة الطبيعة في مشهد فريد من نوعه يبدو منذ فترة كخلية نحل بعد أن أصبح (مزارا) للمفتونين بجمال الطبيعة من الولاية وخارجها وحتى بعض السياح الأجانب الذين عاودهم الحنين لهذه الجنة الساحرة، فالصخور المنحوتة بإتقان في الجبال والمنازل الطينية والقلاع الحجرية بأسقفها الخشبية المنتشرة هنا وهناك وكأنها وجدت لتحرس المكان وتباركه من الأعين، توحي للزائر بأنه دخل في زمن آخر غير الذي جاء منه قبيل أن يودع آخر البنايات الحضرية باتجاه الموقع.

أما منظر الوادي الأبيض المعروف محليا بـ ”إغزر أملال” وهو ينساب أسفل الشرفات مانحا مع كل قطرة من مائه الحياة للواحة وبساتين المشمش والرمان والزيتون والعنب وفواكه أخرى كثيرة، فيبعث الفضول في السائح للنزول إلى أسفل بحوالي 60 مترا للتمتع بعذوبة المياه الرقراقة والمتدفقة من أعالي جبال شيليا الشهيرة.

فمشهد الشرفات من أسفل يجعل الزائر يتخيل وكأن قدماه وطأتا جنة على الأرض، وهنا يدرك سر تمسك عائلة تافساة التي اختارت البقاء والعيش منذ سنين خلت في هذا المكان مديرة ظهرها للحياة الحضرية والعصرنة التي يبدو وكأنها توقفت عند أسوار شرفات غوفي بطبيعتها العذراء.

فإلى جانب الـ 18 نوعا من التمور التي تشتهر بها واحات غسيرة وخاصة منها ”بوزرو” الذي يتهافت عليه أبناء المنطقة ليحضروا منه ”الطمينة الغسيرية” الأصيلة التي يقال إنها وصلت حتى إلى كاليدونيا، فإن رائحة نبات (أسفساق) القوية والزكية التي تعطر الطريق المؤدي إلى غوفي والذي يزينه في تناسق كبير نبات الدفلة بأزهاره الوردية وحبات التين الشوكي، سرعان ما ترسخ في ذاكرة زائر الموقع للمرة الأولى كلوحة فنية متناسقة أبدع في وضعها الخالق.

ولا غرابة في أن المكان بكل تفاصيله الدقيقة ألهم أغلب الفنانين الأوراسيين وكان حاضرا في الكثير من أعمالهم التي تعدت شهرة بعضها حدود الوطن، إلى حد أن عميد التشكيليين الأوراسيين الفقيد عبدو طمين رغم سفره الكثير وتفتحه على حضارات ومجتمعات مختلفة، كان كثير التردد على واحة غوفي الوافرة الظلال وقرر الاعتكاف فيها في أواخر أيامه قبل رحيله سنة 1973.