مهداة إلى كل أطفال العالم وخاصة محبي الطيور إلى ابني عاشق الطيور المحروم منها، إلى روح والدتي رحمها الله عاشقة الحمام عائشة….
إلى صديقي الفاضل: الأستاذ عبد الحميد زكيري، عاشق الطيور
لم تكن والدتي تعلم وهي ترتب بيوتا على الجدار الطيني، وتقوم بتهيئة أعشاشا لها لترعى صغارها وتأويها من برد الشتاء القارس، وتحضن فيها بيضها كلما كان لها بيضا، لم تكن والدتي تعلم أن هذه الحمائم آخر مخلوق سيبقى بالبيت بعد هجرة ساكنيه، الحكاية بتفاصيلها عاشها الحمام وأنا أحضّر له حب القمح كل صباح ومساء.
وأضع له الماء العذب في آنية نحاسية، إن لم أكن أنا فأختي الصغرى ياسمينة، رحمة الله عليها، لم تكن والدتي تفكر في إطعامنا بقدر إطعام حمائمها، كان الحمام عندما يتكلم أكاد أن أفهم لغته، هم يسمونها هديلا وأنا أستطيع أن أفهم هذه اللغة العجيبة وتمنيت لو أنها تدرس لنا في المدارس كالموسيقى، هديل حمام أمي أكاد أفهمه لأنني كلما تأخرت في وضع الحبوب له، غنى أغنية تشبه إلى حد كبير أغنية فيروز: أعطني الناي وغني، وعندما يكون الحمام سعيدا مع رفيقة دربه تسمع له أغنية تشبه إلى حد كبير رائعة أم كلثوم هذه ليلتي، أتذكر جيدا يوم وفاة جمال عبد الناصر، ظل الحمام حزينا، لا يطلب ماء ولا طعاما وغاب عنا ذلك الهديل العذب ثلاثة أيام، وعندما عاد الحمام إلى لغته كان الهديل حزينا، كلما تذكرت ذلك الهديل الحزين، نزلت عبراتي وآلمت عيوني بحرارتها… أذكر أيضا يوم وفاة ابوالشلاغم هواري بومدين، غاب الحمام في أعشاشه وأدار لنا ريشه ليكون الرأس في جهة مخفية، وكأني بالحمام يفهم الأحداث أحسن منا، هي أمي وحدها من يراقب بيوت الحمام، لتنظيفها وتزويدها بنوع من القش وبقايا ليف النخيل، كان الحمام يستأنس لأمي وكأنه أحد أبنائها، الحمام يغني إذا فرح وإذا جاع وإذا أراد الاقتران، كان الحمام حييا، يمارس الخلق الراقي في بناء أسرته، كان قريبا مني، كنت إذا خرجت من بيتنا أزور دارا كبيرة تعج بالطيور، تسمى دار الحمام، ولدار الحمام أسطورة، ترددها جدران البيت الذي هجره الرجال، وبقيت النسوة…وقد تم تهديمه من طرف السلطات ليتحول إلى طريق عمومي، كان الحمام عنوانا لكل مراحل دار الحمام …التي فقدتها بسكرة … دار الحمام إسم أرتاح لسماع إسمه.. فقدته المدينة بكل سهولة، لأنهم لا يعرفون حقيقة الحمام، ولغة الحمام..غنى الفنانون لتغريد الحمام ولكن أمي غنت للحمام حتى فقدت كل ما تملك، فكانت أختي ياسمينة أولى الضحايا، رحمة الله عليها، وكدت أن أكون أنا الضحية الثانية، لولا عناية من الله أنقذتني، وكانت أمي تردد دائما أن دار الحمام لابد له من نهاية مأساوية، وحقا تحقق كلامها، فقد غادرنا والدي إلى غير رجعة، ولكن هذه المرة لم أنتبه للحمام أين ذهب؟
أو ماذا فعل، لقد غاب الحمام عن بيتنا شهرا كاملا، مر الشهر صامتا حزينا، كئيبا أليما لفقدان أبي ذلك الرجل الطيب الذي حزنت قريتنا لفقدانه، وبقي البيت كئيبا إلا من صوت كوكب الشرق وهي تصبح: يا صباح الخير يا اللي معانا أو أنغاما لعبد الجبار على آلة المزود كانت تنبعث من مذياعنا الخشبي القديم أو صوتا لعبد الرزاق جبايلي الذي كان يؤنس خلوتنا وحزننا، كانت نادية تردد: اشتقنا خيالك يا غالي؟
وكان تيسير عقلة قد أبدع في هذه الرائعة الحزينة، وعاد الحمام بهديله الحزين، ليشهد آخر الأحداث الحزينة وكأن لعنة حلت بنا في هذا البيت الطيني، فغاب الوتد الذي كان يلمنا، غابت والدتي إلى غير رجعة، وبقي الحمام يطلق سنفونيته الحزينة، أماه …اماه… أما ثلاثتنا فتشردنا منّا من شرق، ومنّا من غرب، وبقي الحمام يطلق لحنه الحزين، الوداع ..الوداع ..الضياع …الضياع، وكان الضياع عنوانا لحياتنا وبقي بيتنا الطيني خربا إلا من حمامات يطلقن هديلهن الحزين وصار بيتنا ثاني بيت يسمى بيت الحمام، فغرد يا حمام لعل الغائب يعود ولعل الوتد يتذكر أن له ذكريات في هذا المكان وأنّى له ذلك …. ويبقى بيت الحمام حزينا إلى حين….
حركاتي لعمامرة/ بسكرة