تعتزم وزارة التربية الوطنية عرض استراتيجية مكافحة العنف في الوسط المدرسي التي ترتكز على الجانبين البيداغوجي والقانوني، وكانت وزيرة التربية الوطنية نورية بن غبريط قد أكدت أن الحلول التي سيتم تقديمها
من خلال هذه الاستراتيجية ترتكز أساسا على الجانب البيداغوجي والقانوني وكذلك توفير الجو الملائم للتلميذ لمزاولة دراسته، والتكفل بظاهرة العنف في الداخل وفي محيط المدرسة للسماح للتلاميذ بمتابعة دراستهم على الأقل حتى السن 16، كما تحتوي هذه الاستراتيجية على برنامج لمحاربة الانقطاع المدرسي ارتكز أساسا على خمسة محاور لتحسين التقييم البيداغوجي عبر استشارة ميدانية وطنية، وتعميق التكوين لسلك الأساتذة في الميادين البيداغوجية وكذا تدعيم الأنشطة الثقافية لتحقيق الاندماج المدرسي.
يعرف الوسط المدرسي بالجزائر تزايدا ملحوظا في حالات العنف، وكان السيد نجادي مسقم المفتش العام لوزارة التربية الوطنية، قد أشار إلى تسجيل حوالي 40 ألف حالة عنف مدرسي سنويا عبر مختلف المؤسسات التربوية. وقال لدى استضافته في برنامج “ضيف التحرير” للقناة الإذاعية الثالثة، إن الوزارة الوصية عمدت إلى تغيير استراتيجيتها في تسيير هذه الأزمات وذلك للحد من انتشارها الذي ما فتئ يتفاقم يوما بعد يوم، كما أضاف أن دراسة تمت عبر 400 ثانوية استهدفت حوالي 400 ألف طالب، بينت أن 63 بالمائة من التلاميذ يفضلون البقاء في بيوتهم عوض الدراسة في محيط عدائي.
حوادث عنف أفضت إلى الموت
سُجلت خلال العام الماضي حوادث عنف عدة داخل الوسط المدرسي، انتهى بعضها بالموت، ولعل أشهرها قتل طالب ثانوي زميل له بطعنة سكين بسبب خلاف بسيط بينهما، كما تمّ تسجيل حالات طعن بالسكاكين في مدارس ثانوية بالعديد من الولايات، وحسب آخر إحصائيات جمعيات أولياء التلاميذ، فإنها تستقبل سنوياً ما بين 100 و150 حالة عنف متبادل بين الأساتذة والتلاميذ، منها ما يتعلق بضرب الأساتذة للتلاميذ، وأخرى تتعلق باعتداء التلاميذ على الأساتذة.
منع العقاب يصنع تلاميذ متمردين ويحطّ من مستوى تحصيلهم
تحدث الكثير من الأساتذة الذين التقيناهم خلال جولتنا الاستطلاعية بمرارة كبيرة عن الحال الذي آل إليه واقع التعليم في بلادنا، وقالت السيدة “صليحة” أستاذة تاريخ وجغرافيا إنها قامت بضرب مجموعة من التلاميذ بعد رفضهم الاستماع لحديثها
ونصحها لهم بالكف عن التشويش، رغم أن وزارة التربية تمنع العقاب البدني للتلميذ مهما كانت الأسباب، فحضر أولياؤهم وأقاموا عليها الدنيا ولم يقعدوها، في هذا السياق، يقول “نبيل”، أستاذ لغة فرنسية :”أذكر أنني حينما كنتُ تلميذاً وأعود إلى البيت مساء، كنتُ أكتم عن والدي خبر ضرب أيٍّ من أساتذتي لي، لأن أبي كان يعتبر ذلك دليلاً على تهاوني أو تشويشي، فيعاقبني بدوره، أما الآن فلا تكاد تضرب طفلاً حتى يأتي أبوه للتهجم عليك وإهانتك أمام التلاميذ، وهذا ما أفسد أخلاقهم وجعلهم يتجرأون علينا أكثر”، وهو نفس ما قاله “يوسف” أستاذ مادة الفيزياء:”أغلب الأساتذة ملّوا من هذه المهنة لأنها لم تعد تحفظ لهم هيبتهم ووقارهم كما كانت”.
أما “أحمد” معلم الطور الابتدائي، يزاول مهنته منذ 22 سنة، يقول إنه ضد العنف الجسدي الذي يترك آثارا ويدفع بالتلميذ إلى ترك الدراسة، وأيضا ضد منع الضرب نهائيا، لأنه يحرض التلميذ على التمرد والعصيان وترك واجباته، وهو ما يفسر تدني مستوى التعليم.
ويقول: فليتذكر هؤلاء الأولياء “سامحهم الله” الذين يعمدون إلى جرّ الأساتذة و المعلمين إلى مخافر الشرطة والمحاكم بتهمة تأديب أبنائهم، كيف كانت معاملة أساتذتهم لهم في السابق وكيف كان العقاب المعتدل العادل سببا في حرصهم على الدراسة والمثابرة والنجاح في الأخير.
والمؤسف أن كثيرا من الأولياء يرفضون أي شكل من أشكال العقاب حتى العقاب التقليدي الذي يأمر فيه المعلم تلميذه بكتابة عبارة معينة أو كتابة حل واجب ما عدة مرات، بحجة أن الأمر متعب.. و هو ما أعتبره – يقول – إفراطا في تدليل التلميذ أو بالأحرى تحريضا على التمرد.
ويضيف “عملية مقارنة بسيطة بين النتائج المحصلة سابقا، والكوارث المسجلة حاليا، كفيلة بتوضيح الأمور وبالجزم بأن العقاب – وأشدد هنا على العقاب العادل- هو واحد من الأساليب الناجعة في أي منظومة تربوية.”
الأولياء يبحثون في النهاية عن النتيجة الإيجابية
بينما يرفض بعض أولياء التلاميذ رفضا قاطعا أي معاقبة في حق أبنائهم من طرف المدرسين، إلاّ أن منهم من يرى أن الاعتدال في المعاقبة من شأنه تهذيب سلوك التلاميذ والإبقاء على هيبة المعلم، وهو ما ذهبت إليه السيدة فريدة، حيث ترى وهي ليست الوحيدة، أن عقاب التلاميذ أمر لا بد منه، وإنّما في حدود المعقول والابتعاد عن الوحشية في التأديب، لأّنها تترك آثارا معنوية خطيرة.
وجهة نظرها هذه لم تتغير حتى بعد تعرض ابنها إلى الضرب المبرح من طرف أستاذ التربية البدنية، وتفسر قائلة: “إن هذا الأمر يحمل شقين، فأنا لم أرغب في الذهاب بعيدا بالشكوى ضد الأستاذ لأن الواقع وتجارب سابقة أثبتت أنه كلما ضغط الأولياء على الأستاذ المخطئ، كلّما تعرض أبناؤهم إلى الإهمال واللامبالاة من طرفه كردّة فعل، و هو ما يؤدي غالبا إلى تدني نتائجه، أما الشّق الثاني فيتعلق بالتلميذ في حد ذاته، لأنه إذا ما أحس أن والديه يفرطان في الدفاع عنه، ترسخت لديه فكرة أنه لن يعاقب مهما فعل وهي أول خطوة في طريق الانحراف”.
وتضيف هذه السيدة أن ظاهرة العنف ضد التلاميذ والطلبة تأتي نتيجة ظروف صعبة يعاني منها الأساتذة، لكنها ليست أبدا مبررا لتفريغ شحنة غضبهم في أبنائنا لأنهم ببساطة ليسوا السبب في ذلك، ولا بد أن ينتبه الأساتذة إلى النتائج العكسية عند المبالغة في العقاب، لأن التلميذ طفل قبل كل شيء سريع التأثر وردات فعله لا يمكن التنبؤ بها وللأسف غالبا ما تكون خاطئة و لا يتأذى في النهاية سواه.
التربية والتنشئة الاجتماعية… سبيل الحد من العنف
أكدت نسيمة مسعود المختصة الاجتماعية في حديثها مع “الموعد اليومي” أن عدة دراسات سوسيولوجية ونفسية أجمعت على أن العنف ظاهرة اجتماعية لها أسباب ومسببات نفسية واجتماعية من أبرزها القهر الاجتماعي والاقتصادي، وأن التصدي لها رهين بالتربية والتنشئة الاجتماعية القائمة على تكوين النشء الصاعد على التسامح والتفاهم والحوار ونبذ العنف بأشكاله المتعددة.
وتعد المدرسة، باعتبارها فضاء مصغرا وصورة عاكسة لواقع المجتمع، من الفضاءات التي لم تنج هي الأخرى من بعض أشكال العنف، حيث شهدت في السنين الأخيرة أنواعا من العنف سواء كان ماديا من خلال تكسير ممتلكات المؤسسة التعليمية بدءا بتكسير زجاج النوافذ ومصابيح الأقسام وسرقتها وكتابة خربشات وكلمات على طاولات القسم بعضها يكون مخلا بالأخلاق، وكذا الكتابة على جدران المراحيض وأبوابها وتكسير صنابيرها وسرقتها، أو كان عنفا رمزيا من خلال السب والشتم في حق الأستاذ أو التلميذ معا.
ولعل ما سجل في السنتين الأخيرتين من حالات ببعض النيابات التعليمية التابعة للأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين يبين مدى انتشار ظاهرة العنف في الوسط التعليمي، بالرغم من أنها تبقى استثنائية، لكن تؤشر على تزايد الظاهرة بالثانوي والإعدادي والابتدائي، التي تحتاج إلى معالجة من جميع المتدخلين في القطاع، وإلا سينعكس تأثيرها السلبي على المردودية والتحصيل الدراسي ويساهم تكرارها في عرقلة السير العادي للدروس.