في واحدة من أعرق محطات السفر عبر العالم، وأكثرها سحرا، تجعل المسافر يسافر بخياله بعيدا عبر الأزمنة الغابرة قبل أن يسافر إلى وجهته التي يقصدها، فعند مدخل محطة القطارات بقسنطينة يقف تمثال الإمبراطور الروماني قسطنطين حارسا المسافرين وأحلامهم المخبأة ومشاعرهم المتضاربة داخل حقائبهم، مانحا إياهم شعورا بالطمأنينة وبأن الرحلة ستكون آمنة حتى وإن كان سيفه الحامي مفقودا، فنابليون نفسه أشرف على بناء المحطة التي شيّدت لتربط فرنسا بالجزائر مع بداية الاحتلال، ولطالما كانت شريانا حقيقيا يضخ الحياة في كامل الإقليم الشرقي انطلاقا من حي باب القنطرة وصولا إلى تونس والصحراء، رغم أنها اليوم موحشة جدا بسبب قلة المسافرين عبر قطاراتها.
أهمية حضارية، تاريخية وتنموية
في الماضي استخدمت صور كثيرة لمحطة القطارات بقسنطينة كبطاقات معايدة، نظرا لجمالية المكان وسحره الذي لا يبعد سوى خطوات قليلة عن جسر باب القنطرة الرابط بين ضفتي واد الرمال أين كانت عربات «الكاليش» تتوقف لنقل المسافرين نحو وجهاتهم المطلوبة، أما قيمة المحطة فتكمن في عمرانها ذي الطابع الكلاسيكي الحديث الذي كان رائجا خلال القرن 19، فضلا عن أهميتها الحضارية والتاريخية والتنموية، وذلك بحسب ما قاله رئيس هيئة المهندسين المعماريين بقسنطينة، ميلود بن زردة، الذي أضاف أن هذه القيمة مستمدة من مكانة المدينة عموما بوصفها عاصمة للشرق الجزائري، ما دفع فرنسا الاستعمارية إلى اختيارها لتكون محورا لربط الشرق الجزائري بفرنسا عن طريق ميناء سكيكدة، وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو مد خط للسكة الحديدية، بدأ التفكير فيه سنة 1853، وتم الانتهاء من جزئه الأول الرابط بين قسنطينة و «فيليب فيل» سنة 1865، انطلاقا من نفق سيدي مسيد ومرورا بعدة نقاط محورية على امتداد 58 كيلومترا. أما أشغال بناء المحطة فانتهت سنة 1869، وفي يوم 1 سبتمبر 1870 تم تدشين هذا الصرح رسميا ودخل حيز الخدمة مباشرة وكان عبارة عن نموذج للمحطات الأوروبية.
هذا، وكشفت عمليات الحفر لرفع أساسات المحطة عن حجارة رومانية قديمة استخدمت في بناء أجزاء من المحطة، حيث تم دمجها بطريقة فنية مع الهيكل العام للبناء.
… مسار نابليون الثالث
حسب المهندس ميلود بن زردة، فإن اختيار فرنسا للطراز الهندسي الكلاسيكي الحديث كنمط معماري للمحطة، ما هو إلا تجسيد لمشروعها الرامي إلى طمس كل معالم الهوية الجزائرية في إطار مشروعها «الجزائر فرنسية»، والدليل هو التناغم الواضح بين عمران المحطة وباقي البنايات المجاورة لها، وذلك على اعتبار أن حي باب القنطرة كان أول منطقة توسع عمراني كولونيالية.
ومع ذلك فإن اختيار المنطقة كعنوان لمحطة القطار، لم يكن مقترحا اتفق عليه الفرنسيون جميعا، فعند طرح فكرة المشروع، كانت هنالك أطراف فضلت منطقة باردو كموقع للبناء نظرا لتوفر نفق طبيعي جاهز أسفل مقر الولاية السابق بشارع سويداني بوجمعة، تم اقتراح ربطه مباشرة بنفق شارع «طريق سطيف» عن طريق تشييد قنطرة بمحاذاة جسر الشيطان أو جسر الشلالات.
بالمقابل، اقترح آخرون منطقة باب القنطرة نظرا لموقعها الجغرافي، وهو الطرح الذي تبناه في النهاية الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، خلال زيارته لقسنطينة في ماي 1865، إذ تم الاتفاق على شق طريق بعرض 10 أمتار، يربط وسط المدينة ساحة «لابريش» تحديدا بباب القنطرة، وقد سمي بالطريق الوطني آنذاك، وهو الممر المعروف اليوم بشارع العربي بن مهيدي، أو طريق جديدة. أما سبب مد هذا الطريق، فهو تموقع المخزن الرئيسي للحبوب والقمح في المكان الذي يحتله اليوم قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة.
تمثال قسطنطين حارس المحطة
قصة بناء المحطة ترتبط بشكل مباشر بسبب اختيار ساحتها لتنصيب تمثال الإمبراطور قسطنطين الذي أنجزه النحات الفرنسي لوسيان براسور، فالتمثال المبتور الذي ضاع سيفه في متاهة الأزمنة، هو نسخة مطابقة لعمل فني ضخم قديم من الرخام يوجد حاليا بكنيسة سان جان دو لاطران بروما (إيطاليا). وقد وصل إلى قسنطينة في فيفري 1913 قادما من فرنسا، حيث تم وضعه في بداية الأمر بساحة لابريش (ساحة أول نوفمبر حاليا) قبل نقله إلى حي باب القنطرة عند مدخل الجسر ومن ثم نقل إلى محطة القطار غير بعيد عن أخاديد وادي الرمال، في الذكرى المئوية لاحتلال فرنسا للجزائر، وجاء ذلك بقرار من السلطات البلدية الاستعمارية التي أرادت له أن يكون رمزا لسيادتها على المدينة.
السينما والقطار.. ترسيخ لدموع الفراق وأماني الاشتياق
صافرات القطار، وصوت المذياع ينبئ باقتراب وقت الرحيل وتدافع المسافرين على رصيف المحطة، كلها مشاهد اعتدناها في أفلام السينما التي كثيرا ما اختارت محطة القطار، لتكون شاهدا على دموع الفراق وأمنيات العودة وعناق اللقاء، وقد حاولنا ونحن نتجول بين أروقة محطة قسنطينة، أن نعيد تصور بعض القصص التي قد تكون حدثت هناك، تخيلنا كيف كان الشاعر خالد بن طوبال بطل رواية مالك حداد « ليس في رصيف الأزهار من يجيب»، يقلد مشية المسافر العادية، الذي لا تربكه حقيبته الصغيرة ولا مشاكله وكيف كانت الأمتار الأخيرة أطول مسافة وهو يقطعها دون أن يبصر صديقه سيمون عند نهاية الرصيف، «فالإنسان يخالجه شعور باليتم عندما يهبط في مكان، فلا يجد أحدا بانتظاره» كما خط الكاتب.
تخيلنا كيف كان الطلبة والحالمون يجرّون حقائبهم المحملة بالآمال وهم ينتظرون قطار المدينة الكبيرة، ويحاولون إخفاء خوفهم من رحلة قد تقطعها حواجز ومطبات الإرهابيين خلال سنوات الجمر، كما حاولنا تقمص شخصية المخرج السينمائي وهو يضبط زوايا يصور من خلالها علاقة القطار بالحياة و بالزمن، كما فعل مخرجون اختاروا محطة قسنطينة لتصوير أفلام عديدة على غرار «الكشاف وابن باديس وساعي البريد»، وذلك نظرا لكون المحطة لا تزال تحافظ على جماليتها وعلى سحر يجعلها عصية عن التصنيف الزمني، بكراسيها الخشبية و ساعاتها الدائرية الأنيقة وطرازها العمراني المتميز، خصوصا وأن عملية التهيئة التي استفاد منها هذا الصرح سنة 1999 لم تشوه الهيكل العام وحافظت عليه، حيث تم الاكتفاء بوضع ساعة جديدة بدل القديمة المتوقفة وتهيئة المراحيض وأكشاك التذاكر وقاعات الانتظار التي زينت بلوحات وجداريات لفنانين محليين.
قيمة تاريخية وأخرى تنموية
المحطة ورغم تراجع دورها في السنوات الأخيرة، أي منذ دخول الطريق السيار شرق\ غرب حيز الاستغلال، إلا أنها لا تزال تقدم خدمة نوعية في مجال نقل الأشخاص والبضائع، بفضل عدد من القطارات العاملة على الخطوط الطويلة والجهوية، إضافة إلى خط قطار الضواحي وقطار البحر. فالسكة تربط اليوم قسنطينة بالعاصمة عبر رحلتين يوميتين لنقل المسافرين، كما تربط سيرتا بتقرت وبسكرة عبر خط جهوي يشغله قطار متطور “كوراديا”. توفر المحطة كذلك خدمة قطار الضواحي باتجاه عين بوزيان، بمعدل أربع رحلات يوميا، حيث تشرف عموما على تنقل 360 مسافرا نحو اتجاهات مختلفة خلال 24 ساعة. أما أسعار التذاكر فتختلف حسب الوجهة وحسب درجة الرحلة وتتراوح بين 900 دج إلى 1300 دج، بالنسبة لخطي قسنطينة العاصمة وقسنطينة تقرت.
ق. م