وصمة عار خلدها التاريخ

مجازر 17 أكتوبر.. قصة مذبحة شعب أراد الحياة

مجازر 17 أكتوبر.. قصة مذبحة شعب أراد الحياة

يتذكّر الجزائريون، بعد 62 عاما، أحداث 17 أكتوبر 1961، التي ذهب ضحيتها “المئات” من أهاليهم في العاصمة الفرنسية باريس، على يد الشرطة الفرنسية.

تحيي الجزائر، اليوم، ذكرى مظاهرات السابع عشر من أكتوبر 1961 التي راح ضحيتها مئات الجزائريين الذين خرجوا مطالبين بالاستقلال، وجوبهوا بالقمع من قبل الشرطة الفرنسية التي رمت العشرات منهم في نهر السين بالعاصمة الفرنسية باريس.

 

الجهة الفرنسية تقلل من فظاعة المجازر

بالرغم من مرور نصف قرن من الاستقلال، فإن حجم هذه الأحداث لا تلقى الاهتمام اللازم بسبب الخطاب الفرنسي الذي قلص من أهمية هذه الجرائم الوحشية إلى أبسط تعبير، وهذا ما تجلى في أحد عناوين جريدة “لوفيغارو” استنادا إلى أرقام قسم الشرطة “قتيلان اثنان و44 جريحا وتوقيف 7500 شخص من شمال إفريقيا”.

وخلال محاكمة بابون كلف وزير الداخلية جون بيار شوفانمون لجنة بدراسة وثائق الشرطة التي أشارت إلى أن “عشرات” الموتى من بين المتظاهرين الجزائريين عددهم 40، بل ليس أكثر من 50 ضحية”. وتم فيما بعد إنشاء لجنة تحقيق أخرى استخلصت أن “48 شخصا على الأقل” قتلوا ليلة 17 إلى 18 أكتوبر، مؤكدة أن هذا الرقم “قد يكون أقل” من الحقيقة بما أنه لم يتم التأكد من أن “جميع الأشخاص الذين رموا تم العثور على جثثهم”.

وحاول مؤرخ فرنسي جون بول بروني أيضا التقليل من المأساة من خلال تقييم عدد القتلى بـ 30 إلى 50 شخصا في خلاصة “تلقت استنكارا كبيرا”، لاسيما من الجانب الجزائري وأيضا من طرف بعض الفرنسيين. ولأول مرة تم تقديم حصيلة أثقل سنة 1991 من الجانب الفرنسي من طرف جون لوك اينودي خلال اصداره لـ “معركة باريس 17 أكتوبر 1961″، حيث تطرق إلى 200 قتيل تم إحصاؤهم على أساس أرشيف جبهة التحرير الوطني وشهادات أخرى وبالنسبة لفترة سبتمبر – أكتوبر 1961 أعطى المؤرخ عدد 325 قتيلا من بين الجزائريين.

وقد تجاوز عدد ضحايا عنف الشرطة 300 شخص حسب الجانب الجزائري، في حين أن شهادات أشخاص نجوا من الموت خلال ذلك اليوم، تشير إلى طرق وحشية لا مثيل لها بأمر من موريس بابون، واصفين مناظر بشعة لعشرات الجثث الطافية فوق مياه نهر السين جذبهم التيار إلى غاية “لا مونيش”.

بشاعة جعلت مؤرخين بريطانيين جيم هوز ونايل ماك-ماستر يكتبان في “الجزائريين، الجمهورية ورعب دولة” الذي صدر سنة 2008، أن الأمر يتعلق “بأعنف قمع دولة لم تسببه أبدا من قبل مظاهرة شارع بأوروبا الغربية في التاريخ المعاصر”…في انتظار الاعتراف والاعتذار لم تعترف فرنسا إلى اليوم بمسؤوليتها عن مقتل المتظاهرين الجزائريين في أحداث 17 أكتوبر 1961 ولا بجرائمها ككل إبان استعمارها للجزائر، ماعدا بعض الخرجات المحتشمة لمسؤولين محليين لا تكاد تذكر، مثل النصب التذكاري الذي دشنه رئيس بلدية باريس في عام 2001، بيرترون دولانوي، في جسر سانت ميشيل تخليدا لذكرى ضحايا 17 أكتوبر. وفي عام 2011، وضع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إكليلا من الزهور في جسر كليشي، على نهر السين أيضا الذي ألقي منه جزائريون في الأحداث. ولعل أهم خطوة داعية إلى اعتراف الدولة الفرنسية بمسؤوليتها عن قتل مئات المتظاهرين الجزائريين في أحداث 17 أكتوبر 1961 في باريس، هي التي قام بها النائب عن الحزب الاشتراكي الحاكم، باتريك بانوتشي، إذ عرض مشروع قانون يعترف بمسؤولية فرنسا عن مجزرة 17 أكتوبر. وجاء في النص الذي نشرته صحيفة لوموند: “تعترف فرنسا علنا بمسؤوليتها عن المجزرة التي تسبب فيها قمع مظاهرات 17 أكتوبر 1961، لجزائريين يطالبون باستقلال بلادهم”. ولكن الصحيفة استبعدت أن يصادق البرلمان على هذا القانون، قبل نهاية فترته النيابية. يذكر أن فرنسا لم تعترف بجرائمها في الجزائر، من 1954 إلى 1962، إلا في عام 1999، وكانت تسميها فقط “عمليات فرض الأمن”.

نقل النضال إلى الأراضي الفرنسية

رغم الهزات العنيفة التي عرفها حزب الشعب بسبب الخلاف الحاد بين زعيم شخص مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية، فإن المبادئ الأساسية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال بقيت راسخة لدى القاعدة الشعبية، المؤمنة بحتمية النضال بكل أنواعه سواء السياسي منه أو المسلح، هذا الأخير الذي كان ضروريا في مرحلة فقد فيها النضال السياسي مكانته، فكانت انطلاقة الثورة المباركة في غرة نوفمبر 1954، ورغم هذه التحولات داخل التراب الوطني إلا أن الهياكل القاعدية التي وضعت حزب الشعب داخل التراب الفرنسي بقيت على ولائها لمصالي الحاج، عدا الأقلية القليلة التي تفاعلت إيجابيا مع اندلاع الثورة ورأت في العمل المسلح الطريق الوحيد المؤدي للاستقلال، ومن جهة أخرى رأت ضرورة تعبئة المهاجرين الجزائريين وترسيخ فكرة الثورة المسلحة، لذا عملت هذه الأقلية على خلق نواة لفديرالية جبهة التحرير الوطني داخل التراب الفرنسي.

ونظرا للشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها زعيم حزب الشعب مصالي الحاج، لم يكن بإمكان ممثلي جبهة التحرير الوطني السيطرة على جزء ولو قليل من أبناء الجالية الجزائرية، لذا كان ينتظرهم عمل جبار لتحسيس المهاجرين بالثورة وحتميتها، ومع مرور الوقت، تمكن أعضاء فيدرالية جبهة التحرير الوطني من كسب جزء كان ضد الجبهة، التي أثبتت للجميع أنها هي الوحيدة التي تقود الثورة المباركة وهي بحاجة ماسة إلى كل أبنائها داخل وخارج التراب الوطني، وبالفعل تمكنت الجبهة من السيطرة على مناطق تواجد المهاجرين الجزائريين في فرنسا وذلك مع مطلع عام 1957، ومع اتساع رقعة نشاطها من أربع مناطق إلى ستة في عام 1959، رأت من الضروري الاعتماد على التنظيم المحكم حتى لا يقع أعضاؤها في قبضة السلطات الفرنسية بناء على التعليمات التي كانت تقدم من طرف لجنة التنسيق والتنفيذ، ومن أهم توجيهاتها هو العمل على إرباك السلطات الفرنسية عن طريق الأعمال التخريبية، والهدف من ذلك هو زعزعة الأمن الداخلي، وقد أوكلت هذه الأعمال التخريبية إلى منظمة خاصة تحت إشراف فيدرالية الجبهة المباشرة.

ولم يكن من السهل على السلطات الفرنسية أن تهضم ما كان يحدث داخل أراضيها من أعمال حساسة تمس أمنها ومصالحها، لذا كان رد فعلها عنيفا وقويا ضد الجالية الجزائرية، حيث طبقت عليها حظر التجول إلى جانب الممارسات اللاإنسانية ضدها مثل الاعتقالات العشوائية بين صفوفها، إلى جانب المداهمات والحبس، لكن هذه الأعمال الوحشية لم تضعف عزيمة جبهة التحرير الوطني في الاستمرار بالنضال رغم المحاولات الفاشلة لبعض القادة الفرنسيين، وعلى رأسهم الجنرال ديغول من فرنسة الجزائر عن طريق سياسة الاندماج التي لم ترض بها جبهة التحرير وقاومتها بشدة، مما خلق في نفوس هؤلاء نوعا من الخوف من هذه القوة المتنامية التي أصبحت تضرب فرنسا في الصميم ومن داخلها، وعلى ضوء العمليات المسلحة المتوالية ضد قطاعات حيوية فرنسية مثل نسف السكك الحديدية وإشعال المخازن المخصصة للمواد الخام، إلى جانب الهجومات المتكررة على مراكز الشرطة وغيرها، رأت السلطات الفرنسية ضرورة الإسراع في تطبيق حظر التجول قصد تطويق مناضلي جبهة التحرير الوطني وكان ذلك في 27 أوت 1958.

آلاف الجزائريين ضحايا عنف شديد في قلب باريس

وبحلول عام 1961 وبالتحديد في 17 من أكتوبر، كانت الهمجية الفرنسية قد وصلت ذروتها في معاملتها لأبناء الجالية الجزائرية في فرنسا، فالعديد منهم زج بهم في غياهب السجون والمحتشدات ومنهم من استشهد وهناك من نقل إلى السجون والمحتشدات بالجزائر لا لشيء إلا لكون الجزائري ساند ثورته بماله وبكل ما يملك.

لذا رأت فدرالية جبهة التحرير الوطني أنه من الضروري القيام بمسيرة سلمية تعبيرا عن الوضعية المزرية التي آلت إليها الجالية الجزائرية من جراء المعاملات اللاإنسانية، وبسبب الظلم والاضطهاد اليومي الذي كانت تتعرض له، وقد جعلت من باريس العاصمة الفرنسية نقطة انطلاق للمظاهرات التي شملت فئات عديدة كان على رأسها العمال والطلبة وحتى النساء والأطفال، ليتسع لهيبها في جل المناطق الستة حيث التواجد الجزائري بكثافة وكذلك حيث السيطرة الفعلية للفدرالية، وبالتالي انضم إلى هذه المسيرة بعض الفرنسيين المحبين للسلام.

 17 أكتوبر.. تلبية النداء والتنديد برموز الظلم

لقد كان رد فعل فيدرالية جبهة التحرير سريعا وقويا تلبية لرغبة الجزائريين في استرجاع سيادتهم، لذلك أعطيت التعليمات من طرف قادة جبهة التحرير للقيام بمظاهرة سلمية ضد العنصرية والظلم المطبق من طرف السلطة الفرنسية على الجزائريين وقد حدد لها يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 1961 لانطلاقها منددة بسياسة القمع الفرنسي، وقد لبى أغلبية المغتربين نداء الواجب الوطني رافعين شعارات ضد رموز القمع وعلى رأسهم السفاح موريس بابون، وقد طالبوا في هذه المسيرة بالإفراج الفوري عن المعتقلين في السجون الفرنسية وكانت النتيجة حمام دم حوّل لون نهر السين بالعاصمة الفرنسية إلى اللون الأحمر.

مرحلة نضج الجالية السياسي

لم تكن مظاهرات 17 أكتوبر وليدة الصدفة، بل كانت تعبيرا صادقا على مدى الوعي الذي وصل إليه الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الاستعمارية التي حاولت بكل ما أوتيت من قوة طمس مقوماته وإخماد وطنيته، لكنها لم تفلح في ذلك، نظرا لإيمان هذا الشعب بقضيته العادلة التي كانت تتطلب منه نضالا مستميتا وشجاعة نادرة، فكانت مظاهرات 17 أكتوبر 1961 التعبير الحقيقي لنضجه السياسي.

قوة ردعية بأسلحة نارية في مواجهة مسيرة سلمية

وما إن بدأت الشعارات والصيحات تدوي في شوارع باريس وضواحيها حتى واجهتها السلطات الفرنسية بكل قسوة رغم سلميتها، مستعملة كل أنواع الردع بما فيها الذخيرة الحية، وقد سالت دماء الجزائريين غزيرة من أجل كلمة حق لا أكثر، وبعد تفريق المتظاهرين، بدأت الاعتقالات بين صفوفهم ومحاكمتهم محاكمات غير عادلة وجائرة وبدأت الشرطة السرية في مداهمة المهاجرين في محاولة منها لكشف المنظمة السرية وتفكيكها، وبالتالي ضرب جبهة التحرير الوطني في الصميم.

 

قوات الأمن تحاصر جزائريين على جسر نويي Neuilly

 

كل الجزائريين الذين وقعوا في هذا الفخ تم صرعهم ورميهم في نهر السين، مئة جزائري على الأقل تعرضوا إلى هذه العملية. نفس الأسلوب استعمل في جسر سان ميشال. وفي الصباح بدأت الأجساد تطفو على السطح وهي تحمل علامات الضرب والخنق. في محطة الميترو أوستارليتز، كان الدم يجري بغزارة وأشتات الجزائريين كانت تملأ السلم، تضيف الرسالة أنه في مكان آخر خلف ثكنة “كان السفاحون يتخلصون من ضحاياهم في نهر السين الذي يمر على بعض الأمتار حتى لا يتم إجراء الفحوص الطبية عليهم، ولكن قبل ذلك يجردونهم من ساعاتهم وأموالهم

وهذا على مرأى من موريس بابون رئيس الشرطة والمدير العام للشرطة البلدية السيد لوقاي. ويضيف التقرير تفاصيل أخرى لعمليات جرت في مناطق مختلفة من باريس، حيث تم رش الجزائريين بالبنزين وحرقهم وتم تجريد البعض الآخر من وثائقهم وتقطيعها وتوقيفهم بعد ذلك ليعدموا وتلقى جثتهم في القناة أو يتركوا جرحى أو موتى في أماكن خالية. وحالات أخرى من الجزائريين تم شنقهم في غابة فنسان… إلخ. ويضيف التقرير أن هذه العمليات لم تبق سرا على مختلف السلطات وأن ما جاء في الصحافة ليس إلا جزءا ضئيلا مما حدث فعلا.

ل. ب