إِنَّ لِلْمَغْفِرَةِ ثِمَارًا عَظِيمَةً تَعُودُ عَلَى العَبْدِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَأَوَّلُهَا رَاحَةُ القَلْبِ وَسَكِينَةُ النَّفْسِ، فَالمُذْنِبُ يَعِيشُ فِي قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ، يَخْشَى عَوَاقِبَ ذُنُوبِهِ، وَيَشْعُرُ بِثِقَلِ المَعَاصِي عَلَى صَدْرِهِ، أَمَّا إِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ، أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الحِمْلَ، وَاسْتَبْدَلَهُ بِرَاحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا مَنْ ذَاقَهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ” الزمر: 22. وَإِذَا نَالَ العَبْدُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرِّزْقِ وَالخَيْرِ، وَسَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِ البَرَكَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَأَصْلَحَ لَهُ شَأْنَهُ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ المُسْتَغْفِرِينَ بِالتَّوْسِعَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَزِيَادَةِ خَيْرَاتِهِمْ، فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ: “فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا” نوح: 10 ــ 12. وَمِنْ أَعْظَمِ ثِمَارِ المَغْفِرَةِ أَنَّهَا الطَّرِيقُ إِلَى الجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، فَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَحْدَهُ، بَلْ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ”، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ”. فَالمَغْفِرَةُ هِيَ الجِسْرُ الَّذِي يَعْبُرُ بِهِ العَبْدُ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ، وَهِيَ الحَاجِزُ الَّذِي يَحْمِيهِ مِنَ السُّقُوطِ فِي دَرَكَاتِ العَذَابِ، فَمَنْ نَالَهَا فَقَدْ نَجَا، وَمَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا عَظِيمًا. أَيُّهَا المُسْلِمُونَ وَالمُسْلِمَاتُ: المَغْفِرَةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلمَةٍ، بَلْ نُورٌ يُبَدِّدُ ظَلَامَ الذُّنُوبِ، وَرَاحَةٌ تُزِيلُ هُمُومَ القَلْبِ، وَرَحْمَةٌ تَمْلَأُ حَيَاةَ العَبْدِ بِالخَيْرِ والسَّكِينَةِ، فَمَنْ كَانَ يَعِيشُ في وَحْشَةِ البُعْدِ عَنِ اللَّهِ، يَجِدُ فِي المَغْفِرَةِ قُرْبًا وَطُمَأْنِينَةً، ومَنْ كَانَ يُعَانِي مِنْ قَسْوَةِ القَلْبِ، يَجِدُ فِي المَغْفِرَةِ رِقَّةً وإِنَابَةً، وَمَنْ كَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِالهُمُومِ والغُمُومِ، يَجِدُ في المَغْفِرَةِ رَاحَةً وَانْشِرَاحًا. وَلَهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ مِنَ الاسْتغْفَارِ، وَيَقُولُ في المَجْلِسِ الوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَةً: “رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” رَغْمَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَيْفَ بنَا نَحْنُ؟. عبَادَ اللَّه: إِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ الَّتِي نَعِيشُهَا الآنَ هِيَ أَيَّامُ المَغْفِرَةِ، وَهيَ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ رَمَضَانَ طَاهِرًا مِنْ ذُنُوبِهِ، وَقَدْ مَحَا اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّكَاسُلِ، وَلَا تَجْعَلُوا الغَفْلَةَ تَحْرِمُكُمْ هَذَا الفَضْلَ العَظِيمَ، اسْتغْفِرُوا اللَّهَ في لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ العِبْرَةَ لَيْسَتْ فيمَنْ سَبَقَ، وَلَكِنْ فِيمَنْ صَدَقَ، وَلَيْسَ المهمُّ كَيْفَ بَدَأَ الإِنْسَانُ حَيَاتَهُ، وَلَكنْ كَيْفَ يَخْتِمُهَا. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا وَإيَّاكُمْ حُسْنَ الخَاتمَةِ، وَأَنْ يَمْحُوَ عَنَّا الخَطَايَا وَالذُّنُوبَ، وَأَنْ يَكْتُبَنَا مِنَ المَقبولينَ في هَذَا الشَّهرِ الكَريمِ، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
الجزء الثاني والأخير من خطبة الجمعة من جامع الجزائر