من 28 جانفي 1957 إلى 04 فيفري 1957.. أيام عز وبطولة و وحدة
تستذكر الجزائر اليوم حلقة من حلقات الكفاح الطويل ومحطة من أبرز محطاته، فاليوم تحل الذكرى الـ68 لإضراب الثمانية أيام التاريخي الذي يعد نقطة محورية في تاريخ تطور الحركة الثورية الجزائرية.
تجاوز أثر إضراب الثمانية أيام حدود الوطن، فقد ارتبط ارتباطا وثيقا بتطور القضية الجزائرية في الأمم المتحدة، أما داخليا فقد أدى الإضراب، ومن خلال الاستجابة الشعبية الواسعة لكل الفئات من طلبة وعمال وفلاحين وحرفيين، إلى بروز دور الإتحاد العام للعمال الجزائريين والإتحاد العام للطلبة الجزائريين المسلمين واتحاد التجار، مما يوضح احتضان الشعب للثورة، ومن ثمة تمسكه بمطلبه الأساسي المتمثل في استرجاع حقوقه المغتصبة تحت قيادة جبهة وجيش التحرير الوطني. وقد أوضحت جبهة التحرير الوطني في نداء الإضراب الذي أصدرته، الأسباب والأهداف المرجوة من ورائه.
الأوضاع الوطنية قبل الإضراب
تميزت الأوضاع خلال تلك الفترة التاريخية بالعديد من المستجدات سواء داخليا أو خارجيا، ففي الداخل تميزت بازدياد عمليات القمع من جانب الحكومة الفرنسية اليسارية التي كان يرأسها غي مولييه، وخاصة بعد أن منحها المجلس الوطني الفرنسي كامل السلطات، وازداد الإصرار الفرنسي على وضع حد للثورة، بعد أن وضع مؤتمر الصومام الأسس التنظيمية والهيكلية المختلفة التي مكنت الثورة من استقطاب القاعدة الشعبية، وتجسدت السياسة الفرنسية في تكثيف العمليات العسكرية وزيادة عدد الجنود والاستعانة بقوات الحلف الأطلسي وإنشاء المناطق المحرمة والمحتشدات واللجوء إلى القرصنة الجوية باختطاف طائرة الزعماء الخمسة في أكتوبر من أجل وضع حد للثورة .
أما على الصعيد الخارجي، فقد كانت القضية الجزائرية تحقق انتصاراتها الدبلوماسية في المحافل الدولية منها مؤتمر باندونغ أفريل 1955 والذي صادق على لائحة يؤيد فيها حقوق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه. والانتصار الثاني تمكن الدبلوماسية الجزائرية في أواخر 1956 من تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في دورتها العاشرة.
قرار الإضراب والتحضير له
تطبيقا لقرارات مؤتمر الصومام الرامية إلى تصعيد العمل الثوري والسياسي وإشراك كامل شرائح الشعب الجزائري في الثورة، اجتمع أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ يوم 22 جانفي 1957 في العاصمة، وبعد عدة اقتراحات اتفق كل من عبان رمضان والعربي بن مهيدي ويوسف بن خدة على تاريخ 28 جانفي 1957 لبدء الإضراب وذلك قبيل فتح ملف القضية الجزائرية في نيويورك، وأوكلت مهمة التحضير إلى الولايات الستة. فشكلت عدة لجان داخل المصالح والمؤسسات مهمتها التوعية والتوجيه ودعوة السكان للتزود بالمؤونة طوال أيام الإضراب، وإيجاد الصيغ الكفيلة لمساعدة العائلات المحتاجة، وتوزيع المناشير والبيانات. كما شكلت أيضا لجانا خارجية على مستوى تجمعات الجزائريين في الخارج للمساهمة في إنجاح الإضراب. ومن قرارات لجنة التنسيق والتنفيذ، تكليف وحدات جيش التحرير الوطني بتكثيف الهجومات ونصب الكمائن وتصعيد نشاطات التخريب للمنشآت العسكرية والاقتصادية الفرنسية.
الأهداف المسطرة للإضراب
لم يكن قرار الإضراب عبثيا، فكما جاء وليد ظروف معينة، حُددت له أهداف تم شنه من أجلها، وكانت في مجملها أهدافا وطنية مؤكدة على عزيمة الشعب في استرجاع سيادته، فقد جاء الإضراب مُسطرا للأهداف التالية:
-الإضراب عملية استفتاء وطني شامل عبر به الشعب عن ثقته المطلقة في جيش وجبهة التحرير الوطني .
– تحقيق القطيعة النهائية بين النظام الاستعماري الفرنسي وبين كل فرد من أفراد الشعب الجزائري.
– تجنيد الشعب الجزائري كله للمشاركة في الكفاح الجماعي، والظهور أمام العالم أنه شعب مصمم على مواصلة النضال من أجل استرجاع استقلاله وأنه وحّد كلمته وراء جبهة وجيش التحرير.
– إشعار الوفود الدولية في نيويورك بالوضعية القائمة في الجزائر وذلك لتعزيز الجهود التي يقوم بها وفد جبهة التحرير الوطني الذي يتابع القضية الجزائرية في الأمم المتحدة، والوفد يأمل من جهوده هذه أن يتمكن من مصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على لائحة الاعتراف للجزائر بحقها في الاستقلال.
– إسقاط ادعاءات الاستعمار القائلة بأن الثوار عناصر لا علاقة لهم بالشعب.
-وضع السلطات الاستعمارية في الجزائر في موقف تدرك معه بصورة حاسمة ونهائية أنها أمام ثورة شعبية، وأنها مهما استخدمت من وسائل قمعية وتدميرية، هي أعجز من أن تقف في طريقها نحو استرجاع سيادتها الوطنية المغتصبة.
سير الإضراب ورد الفعل الفرنسي
انطلق الإضراب في وقته المحدد، وشمل منذ اليوم الأول مختلف أنحاء القطر الجزائري، حيث اعتصم الجزائريون في بيوتهم، وتوقفت مختلف الأنشطة في المدن استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني حتى بدت المدن كأنها ميتة بعد أن أغلقت محلاتها التجارية وهجرها أصحابها، وها هو أحد الصحفيين يصف لنا اليوم الأول من الإضراب بمدينة الجزائر بقوله: “إنني لم أرَ في حياتي مدينة يخيم عليها شبح الموت في وضح النهار كمثال القصبة في إقفار شوارعها ورهبة السكون العميق النازل على دورها كأن سكانها في سبات عميق” (وكالة أسوشياتد براس الأمريكية). أما عن نسبة الاستجابة الشعبية للإضراب فتذكر الصحف الأجنبية وحتى الفرنسية المعاصرة للحدث، ومنها (لوبسرفاتور) “أن نسبة الإضراب بلغت 90 في المائة، سواء في الإدارات والمصالح العمومية الرسمية مثل مصلحة البريد والسكك الحديدية ومختلف أنواع المواصلات أو في الأسواق العامة سواء المركزية أو التي تبيع بالتفصيل”. أما عن رد فعل الاستعمار الفرنسي، فكان تجنيد إمكانيات مادية وعسكرية كبيرة مع استعمال كل الوسائل الدنيئة والوحشية لإحباط الإضراب – فأنشأت الإدارة الاستعمارية في أول الأمر إذاعة سرية مزيفة سمتها (صوت الجزائر الحرة المجاهدة) لتقلد إذاعة (صوت الجزائر الحرة المكافحة) ومن خلالها تذيع بيانات وأوامر مزيفة ومضادة لأوامر جيش وجبهة التحرير الوطني وتؤكد في برامجها أن الإضراب مناورة استعمارية يجب إحباطها. ومن التدابير الفرنسية توزيع مناشير مزيفة على أوراق تحمل صورة العلم الوطني، زيادة على إذاعة بلاغات رسمية يهددون فيها المضربين بإنزال أشد العقوبات. ولم تكتف الإدارة الاستعمارية بهذه الإجراءات، وإنما قام آلاف من رجال الأمن الفرنسي بالطواف في شوارع الجزائر وغيرها من المدن الأخرى. وقد عزل حي القصبة عن سائر أحياء المدينة وتعترض الدبابات جميع الطرق خارج المدينة. وقامت الطائرات بإلقاء المناشير تدعو فيها سكان الجزائر إلى عدم الاستجابة للإضراب، وتقول هذه المناشير إن الذين يحرضون الناس على الإضراب سوف يقبض عليهم. ورغم هذه التهديدات وإنذارات وأعمال القمع والحصار، إلا أن الإضراب حقق الأهداف التي سطرتها جبهة التحرير من وراء إعلانه.
نجاح زاد من العزيمة وبرهن على القوة
خلّف إضراب الثمانية أيام نتائج متعددة نذكر منها:
– تزكية الشعب وجماهير المدن بصفة خاصة لمطلب الاستقلال، وفي ذلك ضربة قاسية لمقولة الجزائر فرنسية، فترسخ مبدأ القطيعة النهائية بين النظام الاستعماري الفرنسي وبين فئات الشعب الجزائري.
– كان الإضراب بمثابة استفتاء، عبر من خلاله الشعب عن تمسكه وثقته بجبهة وجيش التحرير الوطني، كممثل شرعي ووحيد له، وبذلك تعززت مكانة وسمعة جبهة التحرير داخليا وخارجيا.
– الانتصار السياسي في المجال الدولي هو الذي كانت ثورتنا المباركة تحرص على نيله بمناقشة دامت في قضية الثورة الجزائرية لفترة أكثر من عشرة أيام بإصدار توصيات تثبت أن المشكلة الجزائرية من المشاكل التي تنطبق عليها مبادئ الميثاق في حق تقرير المصير وتطلب من فرنسا أن تتجه في حلها هذا الاتجاه.
لمياء. ب