تحظى الوعدات الشعبية التي ما تزال تقيمها ولاية الشلف باعتبارها جزءا من تاريخ وأصالة الجزائر، وكذا مناسبة ثقافية اجتماعية ذات بعد ديني، باهتمام جميع الفئات العمرية في مشهد يوحي بتواصل الأجيال وتمسكها بالموروث الثقافي.
ويشكّل موضوع الوعدات الشعبية التي تقام في العادة خلال الفترة ما بين سبتمبر- أكتوبر- نوفمبر “جدلا كبيرا” في أوساط المجتمع ما بين معارض لإقامتها لأسباب دينية وما بين مشجع لها كونها من عادات وتقاليد المنطقة، فيما كان إقبال مختلف الفئات العمرية على هذه المواعيد فرصة لتقصي الحقائق واستقاء آراء العامة والمختصين في هذا المجال.
ظاهرة ثقافية بطابع تقليدي
ويرى أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ودراسة الأديان بجامعة حسيبة بن بوعلي، الميلود بوعزدية، أن “الوعدات الشعبية ما زالت تحافظ -كظاهرة ثقافية- على طابعها التقليدي الذي يستقطب جميع فئات المجتمع لاكتشاف الدلالات الرمزية للاحتفال وليس بغرض تصديقها أو الإيمان بها”، خاصة أنها أصبحت “تتمتع بنضج وعلم كافيين للتمييز ما بين الحرام والحلال”.
ويخوض ذات المختص في حيثيات الظاهرة وتداعياتها على أفراد المجتمع، فهي كانت قديما “فرصة لإقامة جلسات الصلح وإكرام الضيوف وكذا محطة للتذكير بمناقب وخصال الولي الصالح لدرجة سرد روايات وأساطير تسمى بـ “الكرامات” يتم تناقلها ما بين أفراد المجتمع حفاظا على نظام اجتماعي ومرجعية دينية خاصة بالقبيلة”.
ويضيف بوعزدية أن الوعدات الشعبية التي أضحت تستقطب أعدادا كبيرة من جيل اليوم على اختلاف أعمارهم، لا تعني بالضرورة تصديقهم للأساطير والحكايات التي تروى هنا وهناك، ولكنها فرصة بالنسبة لهم للتعرف على العادات والتقاليد التي كانت تمارس لدى الأجيال السابقة.
وسائل التواصل تساهم في المحافظة على الظاهرة
كما يرجع إقبال مختلف الفئات العمرية على الوعدات الشعبية خلال الآونة الأخيرة، استنادا لذات المتحدث، إلى تطور وسائل وتكنولوجيات الإعلام والاتصال ووسائط التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي يساهم في محافظة هذه الظاهرة على استمراريتها “فالجمهور الذي كان يستهدفه البرّاح قديما ليس نفسه الجمهور الذي يمكن استهدافه اليوم من خلال وسائل الإعلام التقليدية
والحديثة”.
وعدة سيدي عبد الرحمان… إحياء للإنتاج الثقافي
تعد وعدة الولي الصالح سيدي عبد الرحمان (75 كم عن مقر الولاية) من الوعدات التي تشتهر بها منطقة الشلف، حيث عرفت “إقبالا كبيرا” للقاطنة المحلية وتثمينا للمبادرة التي تساهم في إصلاح ذات البين وتواصل الأجيال والحفاظ على عديد الأنشطة والرياضات التقليدية على غرار رياضة العصا التقليدية والفروسية والفن البدوي والشعر الملحون.
ويرى الأستاذ بوعزدية أن إقبال أفراد المجتمع على الوعدات الشعبية هو “حفاظ على الموروث والعادات والتقاليد، وهو استجابة لأبعادها بدءا بالبعد الاجتماعي الثقافي من خلال إعادة الانتماء لموروث ثقافي لبيئة ما والبعد الاجتماعي النفسي عبر البحث والاستماع لسرديات يمكن أن تحمل من الصدق أقل من الحقيقة بما يروح عن النفس ويغير جوها، وكذا البعد الديني من خلال إحياء قيم الصدقة وإصلاح ذات البين والكرم”.
ويعتبر معمّر عبادلية أن مفهوم الوعدة الشعبية الذي توارثوه أبا عن جد عن الولي الصالح سيدي عبد الرحمان، دائما ما يرتبط بالصدقة وإطعام الفقراء، عابري السبيل، وطلبة الزوايا والمدارس القرآنية وكذا إقامة الصلح بين أفراد المجتمع، فضلا عن علاقات التعارف والمصاهرة التي يمكن أن تنشأ في خضم الاجتماع.
وثمّن السيّد عبادلية هبّة كثير من أهالي المنطقة رغم عوزهم لإحياء هذا الملتقى الثقافي الديني الذي يبتعد – كما لفت – عن “الممارسات المحرمة كالذبح والنذر لغير الله”، مثمّنا بالمناسبة دور الشباب في هذا النشاط، آملا في ذات الوقت تسلمهم مشعل الحفاظ على الموروث الثقافي.
وفي سبر لآراء الأشخاص الذين اعتادوا الحضور، كانت معظم الإجابات تصب في اتجاه تثمين هذه التظاهرة الثقافية التي عرفت، حسب السيّد لخضر غربي، توافدا كبيرا للشباب، وهو ما ينم حسبه عن “قيم اجتماعية وثقافية قام عليها المواطن الشلفي، تسعى في الأخير للحفاظ على فعل ثقافي يندرج ضمن العادات والتقاليد”.
من جانبه، يعتبر السيّد معمّر أن وعدة سيدي عبد الرحمان التي أقيمت بعد 25 سنة، شكلت فرصة للترفيه بالنسبة لأطفال المنطقة بما يسمح بتعرفهم على الموروث الثقافي، ومناسبة لالتقاء ودعوة عديد الأصدقاء والأقارب، فيما استحسنت الحاجة خيرة (70 سنة) إحياء هذا الحدث الذي يرتبط موعد إقامته مع بداية الموسم الفلاحي ويشكل “محطة لاستذكار مناقب وخصال الولي الصالح سيدي عبد الرحمان سعيا لترسيخها لدى أبنائنا”، كما قالت.
ودائما ما تشكل مثل هذه المناسبات فرصة لإقامة عديد النشاطات التجارية التي تختص بصناعة الحلويات التقليدية وبيع العصي وتذكارات حول المنطقة، بالإضافة إلى حلقات الشعر الملحون وعزف إيقاعات بدوية وكذا سباقات الخيل، وهو ما راق للحضور خاصة أنه يرمز للهوية الثقافية للمنطقة.
ق. م