كانت وما زالت صناعة النحاس مهنة عريقة وذات مكانة مميزة لدى الجزائريين، كما ظلت ركيزة أساسية للحياة اليومية، ونشاطا تجاريا يدخل كل بيت عبر الأواني المستخدمة في مختلف الأنشطة والاحتياجات المنزلية، ولكن على الرغم من أصالتها وتعبيرها الصارخ عن التراث القديم للجزائر، بدأت اليوم ولأسباب عدة تفقد بريقها الذي كان يجذب أنظار الجزائريين والسياح القادمين من مختلف البلدان.
صناعة النحاس بين عزوف الحرفيين وتناسي المواطنين
تصنف صناعة النحاس في الجزائر كحرفة فنية تقليدية تستوعب الآلاف، وتشير مراجع محلية إلى أن صناعة النحاس تمارس بشكل واسع عبر 19 ولاية جزائرية، تتصدرها مدينة قسنطينة بنحو 57 بالمائة من الوعاء العام، متبوعة بالجزائر العاصمة ومدينة بجاية، حيث تتألق أزقة مدنها بدكاكين تصنع فيها أواني من النحاس بأشكال مختلفة ومزخرفة بطريقة متقنة ومميزة، تستعمل سواء للزينة أو لأمور مختلفة، جادت بها أيدي الحرفيين، إلا أنه وحسب المتتبعين، هذه الصناعة تعرف عزوفا، بل إنها تحتضر في بعض المناطق التي تعرف بهذه الصناعة مثلما لاحظناه عند تجولنا بين أزقة القصبة وبالتحديد في “حي النحاسين”، “الفرق الشاسع بين الماضي والحاضر، يا خسارة” يتحدث إلينا الشيخ “مولود” القاطن بالحي بحسرة “كان يوجد به ما لا يقل عن 15 محلا تزاول هذه الحرفة، ليبقى الآن منها ثلاثة محلات فقط”، نفس الشيء يتأسف منه العديد من الناس القاطنين هناك خصوصا الكبار منهم الذين يتذكرون السنوات الماضية التي بقيت مجرد ذكريات فقط.
الحنين إلى سماع صوت دقات صنع الأواني النحاسية
بعد أن كانت أصوات دق النحاس من الحرفيين تضفي حسا فريدا يتميز به الحي، لكنك اليوم لا تكاد تسمع تلك الأصوات التي باتت الأذان تشتاق إلى سماعها لكي تشعر بالحياة وصخبها حتى وإن كان ذلك الصوت يزعج الكثيرين إلا أنه كان في ما مضى أهم ما يميز الحي، الذي أصبح كما لو أنه مهجور، ليس من السكان، إنما من جمال تلك الأواني النحاسية اللون التي كانت تعطيه بريقا خاصا وتعبر عن مدى عراقة المكان وجماله.
ففي الماضي كانت للأواني النحاسية ميزة خاصة ولا يكاد يخلو أي منزل منها، سواء “البقراج” الذي يوضع به الشاي وكذلك محبس العروسة المزين بالشرائط الوردية اللون الذي تضع فيه العروس الشمع والصابون، أو الحلويات التقليدية، وكذا الفوانيس وغيرها من الأواني التي كانت الأسر في الجزائر تحافظ عليها وتعتني بها بطريقة خاصة، لما تشكله من قيمة فريدة، وتعبر عن أصالة تاريخنا وأجدادنا الذين كانوا يولون لهذه الصناعة أهمية كبيرة.
السلع المصدرة تقف أمام ترقية وتطور صناعة النحاس في الجزائر
أصبحت صناعة النحاس اليوم كغيرها من الصناعات التقليدية والتراثية في الجزائر تخضع لعدة مقاييس وعراقيل تقف في طريق نجاحها واستمرارها وسط التطورات التي تأثرت بها الجزائر، حيث أنها لم تستطع الصمود أمام المنافسة الشرسة بينها وبين المنتوجات المصدرة من الدول الأخرى كالصين والهند وغيرها، وفقدت ذلك البريق الذي كان يجذب المواطنين إليها على الرغم من أن الحرفيين ما زالوا إلى يومنا هذا محافظين على طريقة الصنع التي تجذب الناظر إليها واقتنائها لكثرة جمالها ودقة صانعها وأيضا الأشكال التي تستهوي الناس وتبعث في نفسهم تلك الرغبة الملحة في الحصول عليها وامتلاكها.
ارتفاع أسعار النحاس وراء غلاء الأواني المصنوعة منها
ومن بين الأسباب التي زادت من اضمحلال هذه الصناعة بالتحديد، الارتفاع الحاد في أسعار النحاس الأمر الذي لا يخدم الحرفيين، حيث يجدون أنفسهم مجبرين على صنع أواني وغيرها بأثمان كثيرا ما تكون خيالية، هذا الأمر الذي أكده السيد “محمد” المدعو رابح أحد الحرفيين المخضرمين بحي النحاسين في القصبة العريقة، الذي تعلم هذه الحرفة اليدوية منذ أن كان في سن الـ 14، حيث قال “إن مادة النحاس تباع بأسعار جد غالية، ما يدفعني إلى بيع مختلف المنتوجات التي أصنعها بأسعار قلما تكون منخفضة”، كما أشار إلى أن السبب وراء عزوف الشبان عن تعلم هذه الصناعة، كونها لا تدر عليهم أرباحا مثل التي يمكن أن يجدوها في مختلف النشاطات الأخرى، مضيفا “شخصيا علمت هذه الصناعة لكل أبنائي إلا أنهم تركوها على الرغم من إتقانهم لها والتحقوا بأعمال أخرى التي يمكن أن تدر عليهم أموالا تكون كفيلة بتغطية احتياجاتهم، ولم يبق إلا واحد من أبنائي الذي يعشق هذه المهنة، مواظبا عليها ومحافظا عليها من الزوال”.
ندرة مادة النحاس وراء زوال حرفة صناعتها
فمن بين الأسباب التي تساهم بحصة الأسد وتدفع بهذه الصناعة إلى الزوال لا محالة هي عدم توفر مادة النحاس في الأسواق الجزائرية، الأمر الذي دفع ببعض الحرفيين إلى إعادة صنع بعض المنتوجات القديمة وتحويلها إلى أشكال جديدة، أملا منهم في أن تلقى إعجابا ورواجا لدى الناس وكذلك إعطاء نفس جديد لهذه الصناعة، وهذا ما أكده عميد الحرفيين في صناعة النحاس، الهاشمي محمد بن ميرة، الذي ما يزال يحافظ في محله على أصالة هذه الحرفة، سواء من خلال عرض منتوجاته أو من خلال المواظبة على إنتاج أشكال وأواني جديدة، بالرغم مما تواجهه من نقص فادح في المادة الأساسية- النحاس-، وأكد بدوره “أن الحي أصبح خاليا من المحلات الخاصة بصناعة النحاس، حيث حول أغلب الحرفيين نشاطاتهم خاصة بعد الركود الذي عرفته بين سنتي 1965 و1980، إلا أنها حاليا بدأت تعرف حركة نوعية، حيث عاد إليها الإقبال من قبل الناس، خصوصا بعد اكتشافهم لأهمية الصناعة التقليدية المحلية، ورداءة المنتوجات المصدرة”. وفي نفس السياق، أضاف الحرفي بن ميرة “أن السلطات والمصدرين على حد سواء لا يولون اعتبارا لهذه الحرفة التي أوشكت على الانقراض، خاصة وأن مادة النحاس في كثير من الأحيان تكون غير متوفرة، الأمر الذي يزيد من عزوف الحرفيين عليها”.
إن ما يجب التنويه له، يضيف المتحدث هو أنه على السلطات أن تلتفت إلى هذا التراث الأصيل وتعتني به وتحفظه من الزوال من خلال تدعيم هذه الصناعة وإعادة إنعاشها، لأنها تشكل ورقة سياحية رابحة، كما أنها تعبر عن عادات وتقاليد الجزائر القديمة، لذا يجب على كافة الجهات المعنية الاهتمام بهذه الصناعات التي بدأت ترسم طريقها إلى الانقراض والاندثار.