تتواصل فعاليات مهرجان الموسيقى السيمفونية الدولي في دورته الرابعة عشرة، بأوبرا الجزائر، بسهرات امتزجت فيها كل الثقافات وحّدت جميعها تحت سقف الموسيقى الراقية، لتقدّم للجمهور لحظات لا تُنسى.
وصنعت العازفة الألمانية أنيكا تروتلر الجمال، بوصلة ساحرة على آلة البيانو امتدت لخمس وأربعين دقيقة، نسجت خلالها خيوطًا من العاطفة والرقيّ، واستعادت من خلالها أجواء الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.
وبأداء امتزجت فيه الصرامة التقنية مع الإحساس المرهف، عزفت تروتلر مقطوعات لشومان وهايدن، حيث تجلّت رومانسية شومان وحنينه، وأبحر الحضور في أجواء حالمة مع مؤلفات سيبيليوس، لا سيما “الفالس الحزين”، التي عبّرت من خلالها عن شعور الوحدة والحنين بأسلوب شاعري عميق. مرور أنيكا تروتلر على ركح أوبرا الجزائر لم يكن فقط عرضًا موسيقيًا، بل لحظة فنية أكّدت قدرة الفن على تخطي الحواجز، وبناء الجسور بين الثقافات. ومن ألمانيا إلى جمهورية التشيك، حيث اعتلت الثنائي النسوي لودميلا بافلوفا وماري سومنيكوفا منصة أوبرا الجزائر، لتقدّما أمسية موسيقية راقية جمعت بين دفء البيانو وأناقة الكمان، في حوار موسيقي عبّر عن أسمى المشاعر الإنسانية وهو الحبّ.
استهلّ الثنائي العرض بمقطوعة “من وطني”، ليرسما عبر أناملهما المرهفة ملامح انتماء واعتزاز بالوطن، تلتها مقاطع من أعمال “سوك”، “سميتانا”، و”سكومال”، وصولًا إلى “فراتريس” لآرفو بارت، حيث تجلّى التواطؤ الكامل بين الآلتين في ترجمة الإحساس الموسيقي. تجاوب الجمهور بحرارة مع كل نغمة، واختُتمت السهرة بتحية دافئة من العازفة بافلوفا للجمهور باللغة العربية “شكرا للجزائر”، لتُختتم أمسية الحبّ والانتماء بإحساس صافٍ وعميق.
مسك ختام الليلة الخامسة كان من توقيع الأوركسترا السيمفونية التونسية، التي قدّمت عرضًا متنوعًا تنقّل بين كلاسيكيات عالمية، ونغمات متوسطية وذاكرة مغاربية.
لكن لحظة الذروة بلا منازع كانت عند عزف “ألو ألو” للراحل الهاشمي قروابي، التي أُعيد توزيعها بنَفَس سيمفوني ساحر حمل توقيع شادي القرفي. في قاعة أوبرا الجزائر الممتلئة، تماهت الآلات مع روح الأغنية، وولد الصوت الشعبي من جديد في حُلّة أوركسترالية راقية، دون أن يفقد بريقه أو دفء انفعاله. لم يكن اختيار قروابي في هذا السياق تكريمًا فقط، بل تأكيدًا على أن الأغنية الشعبية المغاربية قادرة على اقتحام الفضاء السيمفوني بثقة، والانفتاح على العالمية دون التفريط في روحها.
ب\ص