رغم وفرة المصنع منه

“فتل الكسكس”.. عادة جزائرية ما تزال حاضرة

“فتل الكسكس”.. عادة جزائرية ما تزال حاضرة

رغم توفر الكسكس “المصنّع” وجودته، ووجود عدد كبير من العلامات التجارية المحلية التي تصنع الكسكس، إلا أن الكثير من المناطق الجزائرية ما تزال تقوم النسوة فيها بـ “فتل” الكسكس لإيمانهن بأن ما يُحضرنه أكثر جودة من المصنع.

تحتفظ العديد من المناطق الجزائرية بعادة فتل “الكسكس” ويعتبرنه من التقاليد التي لا يجوز التخلي عنها، وهو ما ذهبت إليه عدة ولايات بمنطقة الأوراس ومنها العائلات التبسية الحريصة على التمسك بعادة “فتل الكسكس” وتحضيره في المنزل بالطرق التقليدية وتجنب اقتناء الكسكس المصنع الذي يتم بيعه في المحلات والأسواق، على اعتبار أنه “أقل جودة” من الكسكس المفتول يدويا.

 

معيار لمدى حذاقة المرأة

وبغض النظر عن الجودة بإجراء المقارنات والعودة الى رأي مختصي التغذية، فإن المرأة التبسية تفتخر بحفاظها على عادة فتل الكسكس المتوارثة عبر الأجيال والتي تجعل منه معيارا لربة البيت الحاذقة والماهرة في فنون الطبخ عموما والفتل خصوصا. وتتم طريقة الفتل عن طريق التقاء النسوة وتجمعهن في فناء المنزل الكبير للقيام بفتل الكسكس وسط أجواء يسودها التعاون وتبادل أطراف الحديث والذكريات والغناء التقليدي والزغاريد .

اجتماع من أجل تحضير “العولة”

منذ بداية فصل الربيع وحتى بداية فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، تجتمع النساء في منزل كبير به فناء واسع لتحضير الكسكس بكميات تكفي لاستهلاكه طيلة السنة وفق ما يطلق عليه “العولة”، حيث يتم تخزين وحفظ هذه الكميات من الكسكس بالحفاظ على معياري الجفاف والبرودة وتجنب الرطوبة والارتفاع الكبير لدرجة الحرارة مخافة أن يصيبه السوس أو التلف.

واعتبرت فاطمة الزهراء من مدينة تبسة وهي ربة بيت في العقد السابع من عمرها، أن كيسا كبيرا من الكسكس بحجم 25 كلغ يعد ضروريا في كل بيت. كما تمكّن هذه الكمية، حسبها، من الاكتفاء باستهلاك هذه المادة لسنة كاملة، مشيرة إلى أن معظم العائلات التبسية ما تزال تحتفظ بهذه العادة على الرغم من عديد الأنواع والماركات الموجودة على رفوف المحلات.

وقالت ذات المتحدثة إن النسوة يجتمعن في يوم ربيعي مشمس حول “القصعة” المملوءة بالسميد الذي يتم رشه تباعا بكميات صغيرة من الماء والملح حتى تتشكل الحبيبات الناعمة التي يتم تصفيتها بالغرابيل حتى الحصول على الكسكس، منه الخشن أو “السفة” والمتوسط والرقيق والذي يطلق عليه “المسفوف”.

وبعد تكرار عملية الفتل والغربلة لعدة مرات وفرز حبات الكسكس، يتم طهيه بالبخار وفق ما يسمى محليا بـ “التفوار”، وهي عملية تتم في قدر كبير من الماء المغلي وكسكاس، ليتم في الأخير تفريشه ونشره على قطع كبيرة من القماش النظيف على الأرض في مكان بارد تحت الظل ليبرد ويجف تماما، ثم يتم تخزينه في أكياس من “الخيشة”.

من جهتها، قالت السيدة نصيرة إن تويزة فتل الكسكس تعد مناسبة ينتظرها أفراد العائلة للاجتماع والاستمتاع وشم رائحة تفوير الكسكس التي تنبعث في أرجاء كل بيت، مشيرة إلى أنه ومع ارتفاع درجات الحرارة، تجتمع النسوة كل يوم في بيت أحد أفراد العائلة للفتل.

وتسود جلسات “التويزة” أجواء من المرح والمتعة والمؤانسة، حسب ما أشارت إليه ذات المتحدثة، حيث تقضي النساء طيلة اليوم في “فتل الكسكس” دون شعور بالملل وكلهن نشاط وحيوية مستعدات لإعداد كمية كبيرة من الكسكس تكفي لكل العائلة.

وقالت الجدة مبروكة إنه “لا مكان لكسكس المحلات” في بيتها، حيث أنها “لا تجد فيه الطعم الذي يروق لها”، مضيفة أن أفراد عائلاتها يفضلون وجبة السحور خلال شهر رمضان الفضيل التي تتكون عادة من كسكس مفور وبارد ولبن أو مسفوف بالتمر والزبيب يتم تقديمه مع الحليب البارد أو الرائب.

في المقابل، قالت وهيبة، وهي امرأة عاملة وأم لطفلين، إنها تفضل شراء الكسكس الحاضر في المحلات، حيث تقتني الكمية التي تريد تحضيرها في كل مرة، دون الحاجة إلى شراء كمية كبيرة من الكسكس المفتول وتخزينها في أكياس من “الخيشة”.

وأضافت أنه بالرغم من كون الكسكس المفتول اقتصاديا، حيث لا يتجاوز سعر الكيلوغرام الواحد منه 80 دج، مقابل 150 دج لذلك المصنّع، فإنها تفضل هذا الأخير كونه يسمح لها باقتنائه عند الحاجة ويجنبها مشاق التخزين.

 

“فتل الكسكس” مصدر رزق أيضا

من جهتها، كشفت السيدة “زهرة”، وهي في منتصف الخمسينيات من عمرها، أنها تتخذ من فتل الكسكس مصدرا لإعالة أبنائها، مشيرة الى أن النساء التبسيات يفضلن شراء الكسكس المفتول تقليديا على ذلك الذي يباع في المحلات التجارية.

وأضافت أنها تقوم بفتل الكسكس ومشتقاته من مسفوف وبركوكش أو ” بركوكس”، إضافة إلى تحضير شخشوخة الورقة وشخشوخة الظفر والثريدة، لكسب بعض الأموال لإعالة أسرتها، حيث لاقت اقبالا كبيرا من النساء خاصة العاملات اللائي لا يملكن متسعا من الوقت لفتل الكسكس. وأكدت بأن الاقبال يزداد مع حلول فصل الصيف، خاصة بحلول موسم الأفراح والنجاحات في امتحانات آخر السنة، وقبل شهر رمضان الفضيل.

وقالت إنها ورثت هذه الحرفة من والدتها المرحومة، حيث كانت تساعدها منذ نعومة أظافرها في فتل الكسكس وإعداد العجائن، معتقدة أن الكسكس المفتول بالأيدي لا ينافسه كسكس أي مصنع مهما تطورت الآلات وتعددت التجهيزات. وأضافت أن العائلات التبسية لا تزال تحافظ على هذه العادة إلى غاية اليوم، حيث تتهافت ربات البيوت ممن لا يستطعن تحضيره على اقتناء الكسكس التي تحضره كل حسب حاجتها، فمنهن من تشتري 10 كلغ وأخريات تفضلن شراء 25 كلغ لضمان توفر الكسكس بالمنزل طيلة السنة.

وخلصت خالتي الزهرة الى أنه وعلى الرغم من مشقة وتعب فتل الكسكس، إلا أنها تسعى جاهدة لتحضيره بكل حب وتفان في العمل وتحرص على تجفيفه جيدا، مشيرة الى أنها تختار أجود أنواع السميد للحصول على نوعية ممتازة من الكسكس.

ق. م