في اليوم العالمي للمتاحف

قصر رياس البحر.. جوهرة معمارية شاهدة على تاريخ الجزائر

قصر رياس البحر.. جوهرة معمارية شاهدة على تاريخ الجزائر

يعتبر قصر رياس البحر من بين المواقع الأثرية، التي ما تزال شاهدة على فن وأصالة النمط العمراني العريق في تاريخ قصبة الجزائر، ويُسمى أيضا الحصن 23، وهو أحد شواهد الماضي المجسدة على امتدادات مدينة الجزائر نحو البحر في الفترة العثمانية.

 

جوهرة معمارية مصنفة في التراث العالمي

يقع قصر رياس البحر حصن 23 في شارع عمارة رشيد بين بلدية باب الوادي وبلدية ساحة الشهداء، وهو بذلك يتوسطهما.

بني على يد الدولة العثمانية، التي سعت من خلاله إلى صد كل هجوم من شأنه أن يعكر من صفو المحروسة، على غرار الزحف الإسباني الذي كان يحذق بدول شمال إفريقيا.

ويعود تاريخ بناء القصر، حسب المصادر التاريخية، إلى سنة 1576، بأمر من السلطان “رمضان باشا” الذي حكم الجزائر في الفترة ما بين 1576 و1577، ليدوم بناءه 22 عاما، وتحديدا في عهد القائد “مامي أرنؤوط”.

وقصر رياس البحر، عبارة عن مجمع معماري كبير، يضم أربعة قصور تحمل أرقام 17 ـ 18 و23، في حين تعرض قصر 19 إلى الهدم أثناء مرحلة الترميم نظرا لسوء حالته، ليُضم الجزء المتبقي منه إلى قصر 17، وأضيفت مبانٍ سكنية تعرف بـ “بيوت الصيادين”، وهي عبارة عن دار صغيرة، أو ما يصطلح عليها بـ “الدويرات” التي يبلغ عددها الستة، بالإضافة إلى أزقة مغطاة بقبب طولية متقاطعة تدعى “لسباط” ومصلى صغير يحتوي على محراب يؤمه الرياس.

 

رغم تضارب الروايات… غير أنه هو “حصن 23”

تختلف الروايات حول أصل تسمية “حصن 23” بهذا الاسم، وهي مبنية أساسا على ثلاث احتمالات، الرواية الأولى تحكي، أن تسمية “حصن 23” له علاقة بالرتب العسكرية التي تقلدها الإدارة الفرنسية لضباطها، ونال الحصن هذه الرتبة نسبة إلى قائد فرنسي عمل بالمكان.

أما الثانية فتعود إلى الترقيم التسلسلي الذي وضعته فرنسا لعدد الحصون التي تحتضنها الجزائر العتيقة، والتي يبلغ عددها 25 حصنا، بغية مواجهة الهجوم الأجنبي على الإقليم الجزائري، ليحتل الحصن المرتبة الـ 23 في تصنيفها.

في حين، تقول الرواية الثالثة والأخيرة، إن أصل الاسم يعود بالأساس إلى سياسة ترقيم أحياء ومباني العاصمة، التي تبنتها فرنسا الاستعمارية بمجرد احتلالها للجزائر.

 

قصر 18 … يكاد الجمال ينطق فيه

وأنت تتجول في أرجاء قصر رياس البحر، ينتابك شعور غريب، شعور أقوى منك… شعورك بالتاريخ يمشي معك جنبا إلى جنب، إحساس جميل… فرحة عارمة تنتابك.. سعادة تقتحم قلبك دون قصد منها، فتواصل السير حتى تكتشف أن المكان… يعانق التاريخ، فكل زاوية من القصر، إلا ولها قصة حيكت مع التاريخ منذ أمد، وما تزال إلى اليوم تعانق التاريخ وتخشى مفارقته… وكأنها تصارع من أجل البقاء… من أجل أن تبقى حية، حتى يستشعر الزائر بذلك الشعور الذي أحسسناه… ذلك الشعور الذي مهما حاولت نقله فلن يكون هو… لأنك أنت فقط من تحسه …

القصر 18، المعروف بـ “قصر مامي”، الذي ينطوي على شكل مكعب يخلو من الجمال من الناحية الخارجية للمبنى، شأنه شأن بيوت القصبة العتيقة، في حين تبرز معالم الجمال والفن فيه من الداخل، حيث يكتسي أشكالا هندسية متنوعة من زخارف وأشكال هندسية معمارية أصيلة ذات ألوان زاهية.

يتربع قصر 18، على طابقين، وسقيفتين والسطح، حيث يدخل الزائر إلى القصر من خلال باب كبيرة تطل على سقيفة صغرى لتصله بالسقيفة الكبرى التي لها شكل يشبه المستطيل، زينت جدران هذه الأخيرة ببلاطات ذات زخارف متنوعة.

ومن يريد التنزه أو التجوال بين ثنايا القصر، ما عليه سوى دخول السقيفة، وأول ما يصادف يسارك، “الدكنات” ذات البلاط الخزفي، والمغطاة بمادة الرخام، والتي زرعت فيها أعمدة يبلغ عددها الخمسة، وترتفع السقيفة على سطح الأرض بحوالي أكثر من 40 سم.

أما عتبة باب السقيفة فمبنية بمادة الرخام، وفي بهو أو “مراح” السقيفة يوجد باب آخر يؤدي إلى الاسطبل، بالإضافة إلى باب أخرى في نهاية السقيفة تتصل بـ “الدويرة”، في حين يفصل بين الباب الأول والثاني درج يؤدي بدوره إلى طوابق القصر.

 

غرف الحصن… سحر الماضي

عند انتهائك من زيارة قصر 18، تتجه تلقائيا إلى غرف القصر، التي تتوزع على مستويين، فالدخول إلى الطابق الأول، يكون عبر سلالم أو “الدروج” البالغ عددها 13 درجا، صنعت من مادة الرخام الأسود، وعلى يسار جداره، تقابلك نافذة تطل من خلالها على السقيفة الكبرى، بالإضافة إلى نافذة صغيرة الحجم موجودة عند أعلى السلم.

وعند الواجهة، أول ما يقابلك باب رئيسي، يؤدي إلى الطابق الأول المعروف بـ “وسط الدار” أو “السحين”، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بمظاهر الحياة الاجتماعية، حيث كان بمثابة الفضاء المنظم والواسع لإقامة كل الخدمات، فهو خير مكان لتنظيم الأفراح والمناسبات والاجتماعات.

تدور على جوانبه الأربعة، أروقة ذات أقواس وأعمدة مصنوعة من المرمر وكذا من الحجارة الكلسية، أما عن القسم العلوي منها فمكون من داراليز خشبية ذات زخرفة هندسية ونباتية ملونة أكست المكان جمالا ورونقا .

فالسحين، بأشكاله الهندسية المختلفة، يعد أول فضاء حيوي، تتجلى وظيفته في الربط بين وسط الدار ذي الشكل الهندسي المنتظم ومساحة الدار غير المنتظمة في أغلب الأحيان.

ما يميز جدران “السحين” أنها متواصلة ومرتبة حول محور مركزي تقابلي، باب في الوسط ونوافذ على كل جانب، زيادة على وجود قوس مركزي في حالة ما إذا كان عدد الأقواس أحاديا.

فالسحين هو مسار يحيط بوسط الدار، يتيح للزائر نظرة شاملة على كل أرجائه، إضافة إلى أنه حيز للراحة كونه معبرا مؤديا إلى السطح.

 

ديوان السلطان… آخر شاهد منهم

توجهنا إلى الطابق الثاني من القصر، عبر سلالم ذات 13 درجا، سبعة منها أصلية، وستة غير أصلية. يوجد في مدخل الطابق “بيت العولة” وهو بيت كانت تستعمله المرأة لتخزين المؤونة والغذاء، يتواجد بها 3 نوافذ، تسمح بدخول أشعة الشمس التي تساهم في الإضاءة وحفظ ما خزن.

“ديوان السلطان” مكان يقع في نفس الطابق… ديوان كان يجتمع فيه رجال القصر لمناقشة أمور الحكم والرعية معا، فرغم مرور الأزمنة، ما تزال القاعة تحتفظ بخصائصها العتيقة الأصلية، فسقفها لوحة آية في الجمال، مزين بألوان طبيعية باهية أصلية، أما أرضيته فعبارة عن فسيفساء رائعة، تأخذك في رحلة في ذاكرة الحضارة العثمانية في الجزائر…فـ “ديوان السلطان” هو الشاهد الأصيل الوحيد لحضارة الدولة العثمانية بالجزائر، فأول ما يشد انتباه الزائر للقاعة، عدم إدخال أي اصلاحات أو ترميمات عليها، فكل ركن منها ينطق أصالة.

 

الخيامة… مطبخ على النمط التركي

آخر محطة في جولتنا التي قادتنا إلى القصر، كانت “الخيامة” أو المطبخ ذو النمط التركي، فضاء يتكون من صفحات مادة الشست، ومزود من الأسفل بفتحات دائرية الشكل تمكن المرأة من وضع الحطب لإشعال النار بغية الطبخ، وفوق المطبخ توجد مدخنة موضوعة في جدار مزدوج يمتد إلى غاية السطح.

يأخذ فضاء الخيامة إنارته من بئر الإضاءة، وبجواره يوجد بيت العولة والجب والبئر، فالبئر يوجد في الأسفل تحت السحين، وظيفته استقبال مياه الأمطار الصالحة للشرب، أما الجب فيعمل على استقبال مياه الأمطار القادمة من السطح عن طريق قنوات من الفخار….

ق. م