تزخر الجزائر عبر جهاتها الأربع بأنواع من المغارات والكهوف المنوعة وذات التاريخ العريق، حاوية آثارا لحضارات مرت من هنا كالحضارة الإيبيرية – المغاربية، والحضارات القفصية، إضافة إلى حضارات أخرى في مناطق الهضاب والساحل والصحراء والساحل أيضا.
وبقلب الجزائر العاصمة توجد مغارة ضاربة في عمق التاريخ هي مغارة سرفانتاس الواقعة في بلدية بلوزداد بالجزائر العاصمة على تل بين ديار المحصول والجادة بالضبط أسفل جبل ببلدية محمد بلوزداد قبالة الميناء، ويبلغ طولها سبعة أمتار وعرضها نحو مترين، وتعتبر معلما ثقافيا، وهي غير بعيدة عن مؤسستين ثقافيتين وطنيتين هما المكتبة الوطنية والمتحف الوطني.
وبالرغم من وجود العديد من المغارات الجميلة في الجزائر -مثل مغارة “الكهوف العجيبة” غرب مدينة جيجل- فإن مغارة سرفانتس اشتهرت لكونها ترتبط بفترة مهمة من حياة الأديب الإسباني ميغيل سرفانتس مؤلف دونكيشوت.
لجأ إليها فسميت على اسمه
سُميت مغارة سرفانتس على اسم الكاتب الإسباني الشهير ميغيل دي سرفانتس، الذي لجأ أثناء محاولة الهروب خلال السنوات الخمس التي قضاها في الأسر في الجزائر العاصمة بين 1575 و1580.
وتعود قصة الكاتب ميغيل دي سرفانتاس عندما كان عائدا من إيطاليا إلى بلده إسبانيا للراحة بعد مشاركته في الحروب ضد العثمانيين، فوقع الشاب ميغال دي سرفانتس في قبضة الأسطول البحري الجزائري سنة 1575 قبالة السواحل الفرنسية.
وبسبب ما كان يحمله سرفانتس من خطابات توصية للملك من شخصيات عدة، طلبت البحرية الجزائرية فدية كبيرة مقابل إطلاق سراحه، وهو ما لم تستطِع عائلته تلبيته، فبقي سرفانتس سنوات عديدة في الجزائر بين الأسر ومحاولات الفرار الفاشلة إلى أن جمعت والدته وتجار مسيحيون في الجزائر مبلغ الفدية المتفق عليه، وقُدر وقتها بـ 500 أوقية ذهب، ليطلق سراحه في 19 سبتمبر 1580.
وبعد عقدين من عودته إلى موطنه، كتب سرفانتس عام 1605 الجزء الأول من رائعته “العبقري النبيل: دون كيشوت دي لا مانتشا”، وأتى جزءها الثاني عام 1615 بعنوان “العبقري الفارس: دون كيشوت دي لا مانتشا”.
معلم أثري وثقافي
وتعدّ المغارة حالياً معلماً أثرياً ثقافياً تُحافظ عليه الحكومة الجزائرية وهو تابع لوزارة الثقافة والفنون؛ لكونه يرتبط بفترة مهمة من حياة الأديب الإسباني.
وتشتمل المغارة على عدة غرف ومنحوتات أثرية تكونت بفعل الطبيعة، إلى جانب حديقة صغيرة تزينها بعض الأشجار وأدراج مؤدية إلى الغابة.
وُلدت فيها أعظم الروايات
بعد فراره من السجن واستقراره في مغارة بأعلى الجبل المطلّ على العاصمة الجزائر، أصبح سرفانتس يتردّد على الشوارع والأسواق والحواري، يدوّن كل ما يراه ويكتب كل ما يثير انتباهه.
ويقول مؤرخون إن الأديب الإسباني كان معجباً بحلقات المدّاحين، إذ كان يتردد عليهم ويسمع مديحهم وقصصهم ويسجّلها في الأوراق ثم يعود إلى مغارته ليعيد مذاكرتها والتعلّم منها أسلوب السرد والحوار وبناء القصة والشخوص والخيال.
ويذهب بعضهم إلى القول إن أسلوب روايته الشهيرة “دون كيشوت” ليس إسبانياً وذلك بشهادة أُدباء إسبان، إذ خصص في الرواية ثلاثة فصول للجزائر.
وبعد عقدين من مغادرته الجزائر نشر الرواية الإسبانية الأشهر على مر التاريخ إلى الوجود وتنتشر في أوروبا وتترجم إلى 75 لغة في العالم، من بينها اللغة العربية، وتعد من بين الروايات الأكثر ترجمة في التاريخ.
الأديب الإسباني الأشهر
وقد كان تأثير ميغيل دي سرفانتس على اللغة والأدب الإسبانيين كبيرا جدا، حتى أن اللغة الإسبانية معروفة باسم لغة سرفانتس. لقب بأمير الذكاء، وذلك لأن رواياته وشعره تشتهر بالهجاء الذكي والسخرية وسهولة فهمها بالنسبة للقارئ العادي. درس العمارة والأدب والفن في روما عندما كان شابًا، ثم انضم إلى البحرية الإسبانية. وأثناء خدمته في البحرية أُصيبت ذراعه اليسرى بجروحٍ بالغة. ولم يتمكن من استخدامها بعد ذلك. واعتبر ذلك رمزًا للشرف والتضحية.
أسهم ميغيل بشكل كبير في إنماء الأنواع السردية المعتادة في النصف الثاني من القرن السادس عشر مثل الرواية البيزنطية والرعوية والحوار الساخر والنمط التدريسي المنوع. فيما جدد النوع الأدبي المسمى بالرواية القصيرة. والتي فُسرت وقتها وفقًا للنموذج الإيطالي بأنها أقصوصة قصيرة، خالية من البلاغة ولكن ذات أهمية أكبر.
الترميم وإعادة الاعتبار
ورغم أن مغارة سرفانتس تحظى بأهمية تاريخية وحضارية وثقافية، إلا أنها تعرضت للإهمال، لكن السلطات الجزائرية تعاونت مع السفارة الإسبانية ومعهد سرفانتس الثقافي في الجزائر من أجل إعادة إحياء المغارة وقصة سرفانتس، وذلك للفت أنظار السكان والسياح إلى هذا المعلم الذي أقام فيه واحد من أشهر الكتاب الإسبان.
وأعادت السلطات الجزائرية تهيئة المغارة بجهد مشترك بين الحكومتين الجزائرية والإسبانية، تخليدا لمرور أربعة قرون على صدور الرائعة الأدبية “دون كيشوت”، من أجل تحويلها إلى مكان سياحي وثقافي يضم أعمال سرفانتس لتشجيع السياحة الثقافية.
ق. م