ميلة… موطن الثقافات وحكاية الجمال الأزلي- شلالات سد بني هارون لوحة من أروع ما أبدع الخالق

ميلة واحدة من أهم الأقطاب السياحية في الجزائر، لما تزخر به من مناظر خلابة، حيث تقف فيها الجبال شامخة لا يكسر سكونها إلا خرير المياه المنبعثة من شلالات سد بني هارون التي تأسر العشرات من الزوار والسواح الأجانب، فكل من زارها وجال في شوارعها يعلم تماماً أنها مدينة تجمع الكثير من المعالم التاريخية والثقافية والفنية والعصرية، بالإضافة إلى أنها تعتبر أيضاً ملاذا طبيعيا

قلّ نظيره.

 

تشكل هذه المدينة الساحرة، موردا سياحيا لا مثيل له باعتبارها تحمل بصمات حضارية أثرت على تاريخ الجزائر؛ فيكفي أنها كانت شاهدة على تعاقب مختلف الحضارات كالرومانية والبيزنطية والوندالية، وصولا إلى الحضارة الإسلامية..

حملت ميلة العديد من الأسماء حيث سميت بـ “ميلو” في العهد النوميدي نسبة إلى ملكة كانت تحكمها في العهد الروماني، وفي عهد يوليوس قيصر سميت بـ “ميلاف” وتعني الأرض المسقية، كما حملت لقب “كولونيا”.

و”ميلو” تعني الظل في اللغة الأمازيغية، فبعد انحطاط الإمبراطورية الرومانية وانشقاقها زحف الوندال إلى بلاد المغرب ومكثوا في الإقليم الشرقي حوالي قرن من الزمن، واستولى البيزنطيون على المدينة في العام 540 ميلادي، فجعلوا منها قلعة تحت حكم القائد “سولومون” الذي قام ببناء سور محيط بالمدينة ودعمه بـ 14 برجا للمراقبة وضم أهم معالم المدينة الرومانية.

 

 

مدينة ضاربة في جذور التاريخ

تأسست ولاية ميلة سنة 256م، ظهرت في القرن 13 الميلادي، سميت بأسماء كثيرة منها ميلاف ميليون وميدوس واسمها مشتق من اللاتينية بمعنى التفاح، تقع شمال قسنطينة على بعد 12 ميلا…أسسها الرومان وخضعت للوندال وسيطر عليها البزنطيون حتى عام 674(55هـ)، دخلها المسلمون الفاتحون تحت قيادة الصحابي الجليل أبو مهاجر دينار الذي بنى فيها أول مسجد في الجزائر (سيدي غانم) والثاني في المغرب العربي.

وخلال القرن العاشر لعبت هذه الولاية دورا كبيرا في توطيد أسس الدولة الأغلبية، كما كانت نقطة انطلاق الخلافة الفاطمية وكانت تابعة إبان العهد العثماني لبايلك الشرق.

وقد سقطت مدينة ميلة في يد الاحتلال الفرنسي سنة 1837 وشهدت انتفاضات شعبية بين 1849و1866، وقد شارك سكانها في مظاهرات 8 ماي 1945 اعتقل منهم حوالي 600 مواطن، وقد انخرطت ميلة منذ الوهلة الأولى في عمل الحركة الوطنية سواء الإصلاحي أو النضالي المطالب باستقلال الجزائر .

وإبان الثورة التحريرية جادت أرضها برجال وأبطال ساهموا في حركة الإصلاح، وثورة التحرير ومعركة البناء منهم الشيخ مبارك الميلي والشهيد علي زغدود والمجاهد المرحوم عبد الحفيظ بوصوف والمجاهد لخضر بن طوبال والدكتور منتوري ….وغيرهم، وتشهد ميلة اليوم ديناميكة بناء وتنمية في مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. وتحتوي هذه الولاية على معالم وآثار شاهدة على حقب تاريخية مرت بها.

 

 

“قلعة تازروت”.. أول ” دار للهجرة ” بالجزائر

إن الحديث عن “ميلة” لا ينتهي، فمدينة بهذا التنوع والغنى لابد أنها جعلت محبيها يحرصون على زيارتها باستمرار، لأنهم في كل زيارة يكتشفون أماكن لم تكن معروفة لديهم من قبل، ويعيشون في كل مرة أجواء جديدة ذات نكهة خاصة مفعمة بالفرح والحيوية، على غرار “قلعة تازروت” التي تعد أول ” دار للهجرة ” بالجزائر؛ فعلى علو 1.002 متر يقع كاف تازروت على بعد 7 كلم شمال غرب مقر بلدية عين ملوك بجنوب ولاية ميلة. هنا يسجل التاريخ -بحسب الأثري عمار نوارة مسؤول فرع ميلة للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية بميلة- وجود قلعة تازروت وتعد أول “دار للهجرة” قبل إقجان (بني عزيز حاليا) بولاية سطيف للمذهب الإسماعيلي والتي أنشأها الداعية أبو عبد الله الفاطمي حين كان بصدد الدعوة بمناطق قبيلة كتامة التاريخية لإقامة الدولة الفاطمية التي رأت النور سنة 902 ميلادية. وما زال هذا الموقع الإستراتيجي الكائن بالقرب من مشتة عين بزاط -كما أضاف الأثري نفسه- يحتفظ بالكثير من الشواهد والمعالم الأثرية متعددة الحضارات بدءا من حضارة ما قبل التاريخ ممثلة في صناعات حجرية بدائية، إلى آثار رومانية “شديدة الأهمية” لاسيما منها تلك الكتابات المنقوشة على الصخر والتي تروي قصة نبيلة رومانية ذات أصول بربرية تدعى “أنطونينا ساتورنينا” التي عاشت في القرن الأول الميلادي إبان حكم الإمبراطور أنطيونيوس التقي.

وإلى ذلك هناك أيضا مقبرتان رومانيتان وكذا فسيفساء بهذه القلعة (تازروت) التي تعني محليا اسما بربريا معناه “التل الصخري”، كما تلقب بـ “المدينة” التي تدخل – بحسب السكان المحليين- من باب مغارة.

ويؤكد السيد نوارة أنها ما زالت تحظى بتقديم القرابين وتنظيم طقوس مما يشكل دليلا على أهميتها التاريخية عند السكان.

وفي هذا المكان ذي الطبيعة الجيولوجية الوعرة تحصّن الداعية الفاطمي لفترة من الزمن مدعوما من قبيلة كتامة التاريخية قبل أن يقرر الهجوم على مدينة ميلة غير البعيدة، والتي كانت تعد آنذاك أول مدينة للحكم الأغلبي تسقط في يد الفاطميين الذين أنشأوا دولتهم بعد ذلك سنة 920 بالمهدية في تونس قبل أن تنتقل إلى مصر سنة 969 ميلادية، حيث شيدوا قاهرة المعز، كما بنوا الأزهر الشريف، مستندين إلى سواعد الكتاميين لتتسع حضارتهم إلى منطقة الشام بدءا من 971 ميلادية.

ومن دلائل أهمية موقع قلعة تازروت، رغم أنها غير معروفة كثيرا كما أفاد مسؤول ديوان تسيير الممتلكات الثقافة المحمية بميلة، أنه ورد ذكرها في كتاب “المسالك والممالك” لصاحبه الرحالة المعروف ابن حوقل.

ويتميز الموقع أسفل التل، وبالتحديد داخل حديقة لأحد الخواص، بوجود فسيفساء هندسية متعددة الألوان بتقنية المكعبات الصغيرة. وقد أكد صاحب تلك الحديقة أنه في أثناء حفره لبئر عثر على حوض كبير بطول 5 أمتار وعرض3 أمتار وعمق 1,50 تقريبا. ولا تزال آثار قناة مياه بارزة في المكان وهو ما يعطي احتمال وجود حمام روماني بالموقع. ويتوفر هذا الأخير أيضا على نقيشات وكتابات لاتينية عديدة منقوشة على الصخر هناك منها العديد من النقيشات الجنائزية التي يحتفظ بها السكان.

ويشير الأثريون أيضا إلى توفر معطيات تشير إلى وجود قرية رومانية تتربع على مساحة تزيد على 10 هكتارات وتقع في التلة المطلة على مشتة نعمون بحوالى 500 متر غرب كاف تازروت وتحتوي على العديد من بقايا البنايات، وقد نقل العديد من آثارها إلى المشتة حيث استعملت حجارتها في البناء.

ومن جهة أخرى تقع قناة مياه فخارية في الواد الفاصل بين كاف تازروت والقرية الرومانية، وهي قناة كشفت آثارها الفيضانات الموسمية لوادي الحجار الحمر، وهي عبارة عن قناة من البلاطات الفخارية تصب في بئر تقع في أسفل التلة ومصدرها منبع مائي مازال مستعملا إلى يومنا ويدعى عين السطحة الصغيرة، كما يؤكد السيد نوارة.

ويعتبر هذا الأثر التاريخي الكبير ذا قيمة سياحية جديرة بالتثمين والتعريف فضلا عن أهميته الحضارية والأثرية التي تستدعي الحماية والحفاظ.

ويقول مهتمون بالشأن الثقافي بالمنطقة، إن هذا المعلم يتطلب تصنيفه العاجل ضمن حظيرة الآثار والمعالم الوطنية الواجب حمايتها من عوامل الزمن والضياع والإهمال.

وتضم الولاية حاليا 7 مواقع أثرية مصنفة إلى جانب مواقع أخرى مقترحة للتصنيف، كما هو الشأن بالنسبة لمدينة بوتخماتن الأثرية وآبار أغلاد ببلدية المشيرة وفسيفساء سيدي زروق ببلدية الرواشد وكذا آثار البعالة بوادي العثمانية. وتعد ولاية ميلة زهاء 600 معلم أثري متعدد الحضارات ما يدل على ثروة حقيقية يجدر الحفاظ عليها وصيانتها.

 

تمثـــــــــال ملــــــــــــــو ومسجد سيدي غانم

اكتشف هذا التمثال خلال تنقيبات 1879 – 1880 في المدينة القديمة لميلة وهو تمثال لملكة بربرية حكمت ميلة قبل مجيء الرومان وكانت تسمى “ميلو “، ويوجد هذا التمثال حاليا بالثكنة الموازية لمسجد سيدي غانم بميلة القديمة، الذي يعتبر معلَمًا أثريا ودينيا آخر يحكي تاريخ ميلة، ويعتبر مسجد سيدي غانم أقدم مسجد بني في الجزائر والثاني بالمغرب العربي بعد مسجد القيروان في تونس الشقيقة، اكتشف العام 1969 على أنقاض الكنيسة الرومانية، وقد أسس هذا المسجد من طرف الفاتح أبو المهاجر دينار إثر فتحه للمدينة سنة 59 هجرية الموافق 678 ميلادية، وقد صنف مسجد سيدي غانم ضمن التراث الوطني سنة 1995 وهو يحظى حاليا بعملية ترميم واسعة للحفاظ عليه .

 

“عين البلد” أو المنبع الروماني …لا تزال تسقي سكان ميلة بمياهها الحلوة

تعتبر عين البلد المتواجدة بوسط المدينة القديمة والتي ما يزال ماؤها العذب يجري إلى غاية اليوم. همزة وصل بين الأجيال بحيث يرجع تاريخ إنشائها إلى العصور القديمة وتعتبر المعلم الأكثر قِدما بالمدينة ولا تزال إلى اليوم تسقي السكان بالمياه .

 

 

السجن الأحمر بفرجيوة….معلم يحكي معاناة مجاهدي المنطقة

بني هذا السجن سنة 1952 بعد انتفاضة 8 ماي 1945 بقرار يحمل رقم 09 بتاريخ 13ديسمبر 1946 على مساحة قدرت بـ 2000 م2 ويتكون من 29 غرفة وزنزانة للتعذيب والاستنطاق، وترجع تسميته إلى لون الرمل الذي بني به رغم أن العديد يرجع هذه التسمية إلى لون جدرانه التي لطخت بدماء المجاهدين أثناء التعذيب.

 

 

سد بني هارون …إنجاز آخر يضاف إلى معالم ميلة ومورد هام لسكان المنطقة

يعد هذا الإرث الوجهة الأولى للعائلات الميلية الراغبة في الترفيه عن نفسها والاستمتاع بمناظر شلالات هذا السد العملاق الذي يعتبر مفخرة الولاية والجزائر بصفة عامة. وقد كان التفكير أساسا موجها للسعي لإنجاز هذا السد العملاق عند تلاقي وادي الرمال والنجا بمنطقة بني هارون يكون محوره استغلال مياه السهول العليا القسنطينية وتثمين المياه السطحية الكثيرة التي تذهب هباء إلى البحر في هذه المنطقة من شرق البلاد والتي تسجل إحدى أكبر نقاط التساقط في الجزائر.

وقد انصب هذا المشروع تحديدا على إنجاز مركب مائي كامل متعدد الحلقات قلبه هو سد بني هارون بحوض مائي مساحته 72 ألف متر مكعب مع سدود أخرى بغية سد حاجيات 5 ملايين نسمة من مياه الشرب إلى جانب سقي 30 ألف هكتار وذلك عبر ست ولايات هي ميلة – قسنطينة – أم البواقي – خنشلة – باتنة وجيجل .

وبين الشروع في تشييد المشروع رسميا سنة 1988 وتدشين السد وبدء استغلال مياهه في شهر سبتمبر سنة 2007 لصالح ولايتي ميلة وقسنطينة، مراحل كثيرة ومتعددة، كما ارتبطت جديا بتحولات ومستجدات وطنية وإقليمية دولية كان لها الأثر الواضح في تعطل الأشغال وتعثرها وهو ما كان له بالغ الانعكاس على كلفة المشروع التي ارتفعت إلى ما يقارب أربعة (04) مليارات دولار في نهاية المطاف.

بعد سنوات طويلة من التفكير والتصميم والدراسات التقنية الطويلة تم رسميا تسجيل المشروع سنة 1988 بغلاف مالي قدره واحد مليار دج منه غلاف بالعملة الصعبة موله كونسرتيوم من الصناديق العربية الخليجية وهي الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ” فاداس” والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للتنمية بأبو ظبي.

وقد أسندت الأشغال بعدها لمؤسسة صينية في إطار ما سمي آنذاك بالتعاون جنوب – جنوب لتنطلق أخيرا سنة 1989 عبر الشروع في إنجاز الأعمال القاعدية للسد ومنها أنفاق التحويل المائي للمنشأة .

ولكن الوكالة الوطنية للسدود رأت بعد مرور 3 سنوات على بدء الأعمال تواجد العديد من النقائص التقنية واللوجيستيكية، فتم – تبعا لذلك – بالتراضي إلغاء العقد الذي يربط الطرفين سنة 1991. ولم تكن الأوضاع في منطقة الخليج العربي في مطلع التسعينات ولاسيما منها حرب العراق الأولى بمعزل أيضا عن مشاكل تعرض لها المشروع في ميدان توفير التمويل بالعملة الصعبة كما لاحظ ذلك متتبعون .

وشهد السد منح رخص استغلال للصيد لفائدة 8 شباب من أجل الانتفاع وتحصيل مورد رزق. وبعد إجراء عمليات استزراع قامت بها محطة الصيد لميلة، برزت بالسد أسماك من نوع الشبوط بكل أنواعه وبأوزان بلغت حتى مستوى 40 كلغ للسمكة الواحدة وذلك في أوقات قليلة، ويوفر السد، هذه المحطة التابعة لمديرية الصيد والموارد الصيدية بجيجل، موارد رزق مباشرة وغير مباشرة في مجال الصيد القاري وهنالك مشاريع مبرمجة لإنجاز مرفأ للصيد يضمن خدمات كثيرة لصالح الصيادين وكذا مسمكة ووحدة لإنتاج مربعات الثلج وغيرها.

وقد تم في السنوات القليلة الماضية بالقرارم قوقة اختيار أرضية لاحتضان مشروع قاعدة للرياضات المائية كأصناف رياضية جديدة تدخل الميدان بفضل هذا السد ومياهه الممتدة . وبهذا تظهر للمهتمين والمتتبعين لشؤون ولاية ميلة أن هذه المشاريع تبشر بآفاق واعدة مع هذا السد العملاق الذي أكسب ميلة لقب “عاصمة الماء والتربة” ومنحها قدرات ومؤهلات جديدة تفتح لها الأبواب على جميع الأصعدة والمجالات منها “الاقتصادية، الاجتماعية، الترفيهية وكذا السياحية”، فيما لا تزال مياه السد تعكس مشاهد مراحل انبعاث هذه المنشأة التي غيّرت من ملامح ومناخات المنطقة.

 

بني هارون… طبيعة جبلية تأسر الناظر إليها من أول وهلة

يوفر سد بني هارون العملاق مع جسر وادي الذيب الذي يمر فوقه وكذا الطبيعة الجبلية المحيطة به والاخضرار الذي يتم به، فضاء سياحيا منقطع النظير، لذلك قامت ولاية ميلة بتقديم عدة مقترحات للمتعاملين الاقتصاديين من أجل تجسيد مشاريع سياحية وفندقية وترفيهية معتبرة، والتي تبدو للمتتبعين أنها واعدة، ومن بين الاقتراحات المقدمة نذكر “إنجاز حظائر للتسلية والتنزه تضمن حتى التنقل عبر السد بالقوارب وهناك حتى فكرة لإنجاز – تيليفيريك- يربط ضفتي السد كخدمة عمومية وسياحية جميلة.

وسيدعم ذلك موقع المنطقة التي طالما عرفت بكونها موقفا لا غنى عنه – على الطريق الوطني رقم 27 المؤدي للشواطئ الجيجيلية. كما انتهز التجار اهتمام سكان ميلة الذين يأتون للاصطياف بالمنطقة الخلابة لينشئوا محلات لبيع الشواء اللذيذ وكذا دكاكين للخضر والفواكه والمثلجات ومرافق ترفيهية.